Main menu

Pages

رواية سيدة القصر الجنوبي كاملة

سيدة القصر الجنوبي
للكاتبة : جانيت ديلي
الملخص
انتقلت جولي من بلدتها في داكوتا الجنوبية حيث اكملت دراستها الجامعية الى لويزيانا بحثا عن جذورها في ما اعتقدت انها منطقة اسلافها القدامى ولدى وصولها ومباشرتها البحث عما جاءت من اجله, تفاجئها , في غابة , في غابة كثيفة عينان سرعان ما تقع اسيرتهما عينا رجل يدعى ستيف ... يتحول اسرها فيهما قصة حب هادرة بالثقة والغيرة, بالفرح والشقاء, بالمتعه والعذاب . وفي اطار هذه القصة الجارحة, يبدو على ستيف انه لا يبالي, اذ كانت فتاة اخرى ظنت جولي انها تشاركها الرجل الذي اعتبرته مرفأ لسفينة عذابها . وتقرر جولي العودة من رحلتها في موقف مشحون بالانهيار. وتعود هاربه... لكن الى اين ؟؟؟
حيث تدق الأجراس
استسلم الجواد الابيض في المرقط على مضض لضغط اللجام وابتعد عن الاعشاب الخصبة , واخذ رأسه يتمايل في ايقاع وهو يخطو في تثاقل على الطريق . لقد شهدت عيناه 15 ربيعا , ولم يعد يثب عل قائمتيه الخلفيتين مرحا, أو يرفع مقدمة بحركة مفاجئة ,كما اعتاد ان يفعل من قبل . ولم يعد كذلك يدفع اللجام الحديدي من بين اسنانه. لقد أصبح سمينا وكسولا خلال سني عمره, وبدا وكأنه يدخر طاقته ليطرد الذباب أوليتهم العشب الاخضر الطويل , لعله يكتسب القوة استعدادا لمواجهة فصل جديد من فصول الشتاء كما تعيشة ولاية داكوتا الجنوبية . لم يكن الجواد بحاجة الى ان ينظر في التقويم السنوي ليعرف ان شهر ايلول أوشك على الرحيل . كان يكفيه أن ينظر الى الاشجار بأوراقها الخضراء وقد طهرت عليها بقع ذهبية وبرتقالية , أو يرفع عينيه الى السماء ليرى الطيورتستعد للبدء في رحلة الهجرة مع المعاملات الاولى لبرد الشتاء. وحقول القمح المجاورة للمرعى, المتموجة نضج محصولها وباتت السنابل الذهبية تتدلى على سوقها النحيلة . كان الجو لا يزال دافئا خلال النهار ولكن الليالي لم تكن تخلو من الصقيع. وبدا الجواد المرقط يتهيأ ليوطن جلده الخشن على احتمال الرياح الباردة الوافدة من الشمال الغربي. وجاءت وخزة من كعب الحذاء لتضرب جانبه. وصهل الجواد ليعبر عن استيائه قبل ان ينطلق ليجري في اهتزاز. كان الحمل على ظهره خفيفا واليدان اللتان تمسكان باللجام رقيقتين . وارتفعت يد لتلمس رقبة الجواد في اطراء وتبع ذلك جذب للجام. وعاود الجواد الآخذ في الهرم الجري مسرورا. ثم ما لبث ان عاد الى مشيته المتثاقلة . وتنهدت الفتاة التي على ظهر الحصان العاري بعمق وتركت اللجام يتدلى أمامها, بينما وضعت راحتها اسفل ظهرها وتدلت ساقاها على جانبي الحصان وجلست في استرخاء على ظهره العريض واغمضت عينيها البنيتين الرقيقتين وقد شعرت بالدفء يسري في صدرها وساقيها. كان بصرها ينتقل في سرعة في ما حولها, مجرد رؤية دون ان ترى شيئا محددا . كان قوامها معتدلا وشعرها بنيا دافئا مثل عينيها وقد بدا كثيفا, في قصة قصيرة تسمح لكثافتة وتموجه الطبيعي بأن يشكل وجهها البيضاوي . وكانت ملامح هذا الوجه عادية بلا جمال صارخ وانما كانت تتمتع بصحة عامة تبعث الرضى .
*************
كانت جولي انطوانيت سميث في حداثتها تندب قلة حظها من الجمال الساحر, ولكن أباها كان يضمها بين ذراعيه في نوع من العناق الذي اعتاده ويعمد الى اغاضتها بصوته الضاحك قائلا : - ان لك عينين جميلتين ترين بهما, ولك أنفا تشمين به, ولك شفتين سخيتين تشكلان فمك الذي يتكلم ويأكل بطاقم اسنانك الابيض الناصع . ثم يرفعهما الى اعلى فيما رأسها الى اسفل وينعم النظر في وجهها ويقول: - ووفقا لأخر عملية حسابية قمت بها, فان لك 437نمشة ينبغي ان تشكري الله عليها لأنه نثر هذه الذرات الذهبية في وجهك . ولكنها كانت تعبس وتقطب بسبب النمش الذي كان هناك وكأنه ليس هناك. واذ ذاك أبوها يداعب ركن فمها ويجعلها تبتسم رغما عنها ثم يختتم حديثة بلذة النصر قائلا : - واعطاك كذلك بعض الخطوط الغائرة الجميلة على ذقنك . وكانت جولي تفهم ان اباها يتحيز اليها, ولكنها كانت تحس بارتياح كبير بعد تلك المداعبات. وعندما كبرت ادركت انه كان يحاول ان يجعلها تشعر بالرضى وقد كفت منذ زمن طويل عن ان تلعن حظها من ذلك النمش وتلك الخطوط الغائرة في ذقنها. كما تعلمت ان تقبل المداعبات البريئة التي تتعرض لها بسبب ذلك. ورغم ان جولي قلما كانت تحظى باهتمام من الجنس الاخر, فان الرجال الذين كانوا يألفو بصحبتها كانوا يجدون فيها فتاة دائمة الابتسامة الاصغاء والحديث, وكانت من النو الذي يحن الى الجلوس الى أمه بينما تحرص صديقاتها على ارتياد الحفلات . كانت جولي قد عادت الى بيتها بعدما امضت اكثر من3 سنوات درست خلالها البرنامج المقرر لـ 4 سنوات كاملة واتمت تعليمها وحصلت على الدرجة الجامعية. ولكن ماذا بعد؟ كانت تحس بشيء من عدم الارتياح وكان القلق يجيش في نفسها. لقد عادت الى مسقط رأسها وبدا لها ان كل شيء قد تغير , بينما كان كل شيء على ماهو عليه: مسقط الرأس, 360 فدانا من الاراضي الزراعية على مسافة 60 ميلا من يانكتون في ولاية داكوتا الجنوبية حيث ظل ابواها طوال 21عاما من حياتهما يفلحان تلك الارض وكانت حياة طيبة لكنها لم تكن تخلو من المصاعب احيانا بسبب الطقس وأثره على المحاصيل. ولكن .. تلك كانت حياة ابويها وليست حياتها هي . وتوقف الجواد المرقط ليأكل بصوت طاحن من كتلة كثيفة من العشب ولكن جولي استحثته على السير وقالت : - لو انك اكلت اكثر من ذلك يا كشاف لانفجرت معدتك . واستجاب الحصان مطيعا وواصل السير متثاقلا . وتنهدت جولي وخاطبته: - يالك من عجوز مسكين. لقد تغيرت انت ايضا مثلي . صدق من قال ..انك لن تستطيع العودة ثانية .
*********
وكان والدا جولي قد عاشا بمفردهما خلال السنوات الـ3 الاخيرة ولم يعودا قادرين على رعاية امور ابتهما. فهما لا يستطيعان ان يعرفا بأنها قد اصبحت راشدة . لقد تزوجت اختها التي تكبرها بعام واحد ورزقت طفلين وعاشت حياة تختلف تماما عن حياة جولي . وادركت هذه ان كل شيء قد تغير حتى جون تالبوت ذاته. رأت جولي سيارة جون البك اب تنتظر عند منعطف على جانب الطريق الزراعي, وكان بقامته الطويلة التي لفحتها الشمس يقف على حافة حقل القمح وعضلات ذراعيه تلمع مع اشعة الضحى ورفع احد ذراعيه محييا بينما ظهرت بين اسنانه واحده من سوق القمح ووجدته يخطو خطا واسعة الى حافة الحقل , واقتربت منه على ظهر حصانها وامتدت يداه الغليظتان تحيطان بها وحملها الى الارض وخفض رأسه تجاهها يلتمس عنقها . واستجابت جولي على فطرتها وقد احست به يقترب منها, وارتاحت الى بريق العاطفة البادي في عينيه السمراوين الذهبيتين والى ابتسامته وهو يقول : - هيه.. لقد مضى وقت طويل منذ خرجت اخر مرة الى المزرعه . ووجدت جولي نفسها تلتصق بكتفه.وامتدت ذراعه القوية تشدها اليه وجعلت ذراعها تلتف حول وسطه بينما اخذ الحصان يرعى وقد اغضى عنهما وهما يسيران في بطء تجاه حقل القطن. واندمجت جولي في الحديث الذي يدور عادة بين سكان المنطقة: - ان ابي يقول يقول ان موعد حصاد قمحك قد حان . ونزع جون واحدة من سوق القمح قبل ان يجلس تحت ظليلة واخرج الحبات الذهبية من السنبلة وألقى باثنتين في فمه, وقال : ما زالت فيه نسبة كبيرة من الرطوبة. وبعد يومين مشمسين يكون جاهزا للحصاد . ودفع قبعته الى الوراء واضاف : سوف يكون فصل حصاد طيبا . وعلقت جولي قائلة : - ان ابي يشكو الآما في كتفه ولابد ان المطر سيسقط قبل مساء الغد . وابتسم جون وضمها بين ذراعيه وقال : - بلغيه نيابة عني ان ينتظر يومين اخرين . وهم بعناقها فأدارت رأسها ولمست شفتاه وجنتيها ولكنها افلتت منه وسألها في هدوء : - ماذا بك يا جو ؟ تنهدت واجابت : - لا ادري ... وادارت بصرها الى الوراء لتلقي عليه نظرة استطاع معها ان يلمح اثار الحزن .وواصل الحديث قائلا : - لقد مضى اسبوع منذ قدومك. ألم تتلق أي رد على ططلبات العمل التي تقدمت بها ؟ - لم اتقدم بأي طلب للعمل . وارتفع حاجباه بعض الشيء. وتنشقت انفاسها وهي تحول عينيها عن وجهه . ولكنه كان يعرف الكثير عما تفكر فيه وقالت : - لقد حصلت على الدبلوم بالفعل, ولكنني لا اعرف ماذا افعل بها ؟ عندئذ قال جون : - يمكن متخرجات اقسام الاقتصاد المنزلي ان يصبحن زوجات ممتازات ! ورغم ان تعليقه كان يعني لها شيئا من المضايقة فقد عرفت ان العبارة كانت نوعا من جس النبض لعله يعرف رأيها . ولكنها لم تستطيع ان تخبره صراحة انها لا تحبه , او على الاقل لم تكن تحبه بالطريقة التي تريد ان تحب بها الرجل الذي سيصبح زوجا لها . كان جون حلم اية فتاة. فهو لم يكن جميل الطلعة فحسب بل كان صلبا يمكن الاعتماد عليه. وكانت أي نظرة منها الى ملامحة الملوحة بأشعة الشمس تجعلها تعجب من نفسها .. كيف لا تحرص على ان تفوز بالرجل الذي ظل ينتظرها 5 سنوات لم تكن تنكر ان جون له سحر يجتذبها اليه, ومع ذلك لم تدق الاجراس ولم تسرع ضربات قلبها عندما امسك بيديها وكانت ترى انه ليس عدلا ان تتزوج منه وهي تعرف حقيقة شعورها نحوه . وجاء صوته الخشن الهادئ يسألها : - هل فكرت مرة لماذا لم اقدم اليك خاتم الخطوبة فيما كنت طالبة في الكلية ؟ وأومأت برأسها وهي تشعر بالذنب الى درجة لم تستطع معها ان تجيب صراحة. وتابع قوله : كنت اعرف انك تستلطفينني بل ربما احببتني, ولكنك لم تقعي في حبي حقيقة . وظهرت على وجه جولي علامات الالم, واضطر جون ان يمد يده ليرفع ذقنها الذي كاد ان يغوص في صدرها وقال : - كنت في الـ18 من عمرك وكنت في الـ24 وقررت ان من الحكمة ان انتظرك حتى تكملي دراستك . وهمست جولي : - احس كما لو كنت ادنى مخلوق على الارض ياجون . اعترف انني لم اقع في حبك. احس باحترام نحوك لم اشعر به تجاه شخص اخر من قبل . احبك ولكن من معنى اخر . واحست باصابعه تنشب في كتفيها تنفيسا عن الالم العميق الذي ابى وجهه ان يبوح به , وابتعد وظل يستند الى جذع الشجرة وقال : - الطريقة التي تحبينني بها لن تشفي غليل أي منا لزمن طويل . كانت ابتسامته تعكس الاسى وبد المرارة واضحة على وجهه واكمل : - وماذا تفعلين ؟ هل تقيمين هنا ؟ وهزت رأسها هزة لم يكد يلحظها , واجابت : - لا اعتقد ذلك . لقد عدت الى المزرعة لأجمع شتات افكاري بعد 3 سنوات عانيت فيها من الانتظان في الدراسة والواجبات المنزلية وغيرها. واحس كأن شخصا القى بي على الشاطئ. لقد ظننت ان العودة تعطيني فرصة للبدء من جديد ولكنني الان اكثر اضطرابا. ولا اريد ان اقبل أي عرض للعمل ولكنني لا اريد كذلك ان ارهق ابوي بالانفاق علي. لقد كلفتهما الكثير . - كل شيء سيكون خيرا باذن الله . - آمل ذلك لكلينا يا جون ! . وكان يحدق في الارض المزروعه دون ان يبصر شيئا محددا ثم تحول الى جولي وقال : - هل اطمع في ان تدوم صداقتنا ؟ وامتدت يده تعبث بشعرها وتذكرت سنوات صباها, وقالت : - بالطبع . وابتسم وهوينهض برشاقة على قدميه ونهضت هي الاخرى ووقفت صامته الى جانبه واستأنف الحديث : - دعي عنك هذه الكآبة يا حبيبتي. لا تظني انني فوجئت. اعتقد انني كنت سأدهش حقا لو انك تحبينني بالفعل . وتعانق الاثنان فيما كانت عيناها مخضلتين بالدموع. وقالت : - الخالة بريجيت ستقطع رأسي لأنني افرط فيك . وضحك جون وقال : - لا تقولي ان خالتك المشبوبة العاطفة هنا !؟ . - انها كالعذراء داخل الشرنقة. كيف تجرؤ ان تسميها مشبوبة العاطفة ؟ ان امي تقول انها لم تذق طعم القبلة في حياتها . - انها في رأيي المرأة التي تعرف معني الحب . كانت تلك اجابة حيرت جولي. وتركها جون في حيرتها وقال : - ان العم راي يبحث عني الأن ولابد ان انطلق . لم تكن جولي قد ادركت انه اعتزم الرحيل حتى ابتعد عنها بضع خطوات فصاحت تناديه : - جون.. انني .. انني آسفة . كان جون قد احس بكتفيه يتصلبان بعض الشيء قبل ان يلتفت اليها. ولوح بيديه ومع ذلك سرعان ما ابتعد عنها تجاه سيارته. ووقفت جولي ترقبه قبل ان تعود الى جوادها السمين الذي كان لايزال يملأ بطنه بالكلأ .
انغلق الباب الداخلي في المنزل المكون من طابقين وقد احدث بعض الضجيج بينما كانت جولي تجتازه الى الداخل . ولم تكن تحس بأنها احسن أو اسوأ حالا مما كانت في الصباح .كانت قد اتخذت قرارا حاسما فيما يخص المكان الذي يمكن ان تعمل فيه . اذ قررت الا يكون ذلك بأي حال في مكان قريب من مسقط رأسها حتى لا يتيح ذلك فرصة امام جون لمعاودة الضغط عليها للزواج منه. وجاء صوت مهيب من شرفة في الداخل : - مرحبا ... من دخل !. - انا يا خالة بريجيت . قالت جولي ذلك وهي تدير رأسها قرب الباب ولحت بيدها قائلة : - اين امي ؟ - انها في المدينة تشتري بعض البقالة . وهمت جولي بالتوجه الى حجرتها ولكن الخالة اشارت اليها : - تعالي واجلسي معي . وكان شعر الخالة بريجيت بلونه الرمادي قد التف في كعكة صارمة وكانت جولي تنظر الى خالتها التي تكبر امها بـ 12 عاما على انها امرأة عملية وحازمة . ولكن تعليق جون جعل جولي تتعجب كثيرا وتفكر في مدى صدق الصورة التي تراها بها . فالملامح التي تبدو عليها الآن ربما كانت في يوم من الايام جذابة حقا . وسألتها الخالة : ماذا فعلت منذ عودتك من المدرسة ؟ كانت خالتها قد امضت الـ 30 عاما الاخيرة في مهنة التعليم وكانت اسئلتها تصل الى جولي وكأنها اوامر. واستغرقت الفتاة في شيء من التفكير ثم اجابت : - كنت استريح من عناء الامتحانات النهائية كما كنت احاول ان ارسم صورة لما عساي ان افعله في المستقبل . - انك تتكلمين وكأنك تتحدثين عن مشكلة خطيرة . كانت بريجيت كارسون قد لاحظت بالفعل التعبير المضطرب على وجه جولي ومضت تقول : - كأنه امر خطير بالفعل . - نعم . قالت جولي ذلك وقد حاولت ان تدير وجهها حتى لا تواجه نظرة خالتها المتفحصة وواصلت الخالة قائلة : - اين كنت هذا الصباح ؟. - كنت في الخلا مع جون . - انني واثقة من ان لديه اجابة عن المأزق الذي تعيشينه . - نعم ... كان لديه اقتراح . وبدا صوتها رقيقا وحازما في آن واحد واكملت : - انني لم اقع في حبه حتى الآن يا خاله بريجيت . - اشعر بالاسف لك ولجون في الوقت ذاته. كان من الممكن ان يكون زوجا وابا صادقا في حبه لك . هل انت متأكده من شعورك نحوه ؟ - ماهو الحب ؟ طرحت جولي السؤال وهي تستدير من النافذة نحو خالتها واكملت : - ان عمري 21 سنة ولا اعرف حتى الآن ماهو الحب . ان ذلك يا عزيزتي سؤال سوف يتردد طالما كان احياء على الارض . وارتفع حاجبا خالتها القاتمان وقالت : - لقد ادركت انك لم تقعي في حب جون بعد , والا لما طرحت هذا السؤال . - هكذا تتخلصين من الاجابة على السؤال .. ارجوك الا تكرري لي الكلام الذي تقوله امي : الحب يعني اشياء كثيرة بالنسبة الى الكثيرين . - اعتقد ان الحب الذي تتحدثين عنه حيث تدق الاجراس شيء نادر لأنه حب بلا انانية. وقليل من الناس من يستطيع ان يعطي من مشاعره عطاء كاملا حرا. وهناك من يشقون كثيرا في سبيل العثور على ذلك الحب لكنهم لا يجدونه , ومع ذلك فهناك قلة من المحظوظين يعثرون عليه حقا . - وهل عثرت عليه خالتي بريجيت ؟ - نعم .. ذات مرة . ولكن حادثة السيارة اخذته مني . وعلت وجهها ابتسامة حزينة واكملت : - لقد حطمني تماما ذلك الحب. ان الذي تتحدثين عنه حب نفيس . - هل تعتقدين انني سأعثر عليه ؟ - ليس بتلك الملامح الكئيبة التي تعلو وجهك . كانت بريجيت قد اختارت الكلمات التي ساعدت جولي على ان تخرج من شعورها بالكآبة . - حسنا انني لا اتطلع الى الرحيل, كما لا اريد الاقامة هنا ولابد من ان اشغل نفسي بشيء . - الواقع ان من الصعب على الانسان احيانا ان يتخذ القرار عندما يكون وسط من يعرفهم لأنه يلح في طلب اراءهم رغم انه يعرف انها لا تفيد. وفي رأيي ان ترحلي لمدة اسبوع او اسبوعين . ارحلي وحدك الى أي مكان واسترخي واستمتعي بوقتك وسوف تدهشين كيف تصبح الامور بعد ذلك في غاية الصفاء . وهزت جولي كتفيها وقالت : - لا اعرف مكانا معينا اذهب اليه . ولاح في عيني جولي شعاع ضوء للحظة. فقد تذكرت رغبة حبيسة نفسها منذ طفولتها وقالت : - ربما ولكن مكان بعيد وليس في وسعي ان احلم برغبات متطرفة . - وماذا يضيرك لو تحدثت بما في نفسك مبينة الى اين تذهبين لو توفرت لك النقود ؟ - سأقول شيئا قد يبدو غريبا على مسمعك, فقد ظللت افكر في الذهاب الى لويزيانا, حيث كانت جدتي الكبيرة لأمي او غيرها من اجدادي يعيشون . انني لم اكف عن التفكير فيما اذا كانت كاميرون هول مازالت قائمة هناك ؟ - انه لشيء غريب حقا حين نعرف كيف نجح هذا السلف الوحيد لنا في ان يصبح جزءا من حياتنا الى هذا الحد . وتفحصت العينان القاتمتان جولي بعناية وواصلت تقول : - لقد سميت بأسمها: جولي انطوانيت. كانت البنات يحملن اسماء فرنسية عبر السنين . - لا يعنيني لك لأن حظ جولي من الجمال والفتنة اكبر بكثير مما كانت عليه جين سميث . وقهقهت جولي مليء فمها : - لابد ان هناك وسيلة تستطيعين بها ان تقومي بهذه الرحلة . كان عقل خالتها يعمل بشكل يكاد يكون ملحوظا بينما راحت جولي ترقبها وهي تزيح الكتاب عن حجرها وتنهض لتقف : - لا اعرف كيف ؟ - ان لدي مبلغا من المال لا بأس به ادخرته ولم تفكر قط لماذا. لم احضر لك هدية التخرج من الجامعة لأنني اردت ان تختاريها بنفسك. وها انت قد اخترتيها بالفعل.رحلة الى أرض الرافد. الى لويزيانا. وابتسمت خالتها ولهثت جولي وقالت : - انه مبلغ كبير لا استطيع ان اتركك تفعلين ذلك . وكيف تستطيعين ان تمنعيني ؟.
2- ذو الصوت الغريب
كان كل اعتراض تثيره جولي يجد رداً منطقياً مقنعاً حتى وجدت نفسها تجلس إلى المكتب حيث بدأت خالتها تخطط معها للرحلة. كان من الضروري أن تذهب سيارة جولي الفولكس واجن الصغيرة للفحص الدقيق قبل الرحلة، بالإضافة إلى استكمال بعض الملابس. و كان من الضروري أن تجري بعض الاستفسارات حول مكان المبيت في أقرب مدينة إلى المستعمرة. (كاميرون هول) بالإضافة إلى تقدير المبالغ المطلوبة للوقود و الطعام و المبيت. و عندما رجعت أمها من المدينة كان قد تم وضع خطة الرحلة كاملة، و قامت الخالة بريجيت بعرضها عليها كأمر قد تم الاتفاق عليه. و عندما رأت جولي كافة تكاليف الرحلة صدرت عنها أنة ألم و قالت:"إن أقل ما أقبله هو أن تأتي معي يا خالتي بريجيت لتستمتعي بعض الشئ، خاصة و أنت التي ستدفعين كل النفقات" و ردت خالتها في حزم و سخرية:"ليس هذا هدف الرحلة. فالفكرة منها أن تخرجي وحدك و تستمتعي و لن يتحقق ذلك إن أصررت على أن تصبحي عانساً طوال الرحلة" و لم تنجح أي محاولة في تغيير القرار الذي اتخذته الخالة. و وجدت جولي نفسها تستغرق في تنفيذ الخطة. و لم يمض أسبوع حتى كانت سيارتها قد أصبحت صالحة للرحلة، و وصلت إفادة تؤكد وجود أماكن للمبيت و أما الحقائب فقد تم حزمها. و عندما قادت على الطريق العام سيارتها بلونها الذي يشبه لون التوت البري أحست بأنها أيرة فيض من المشاعر. كان هناك شئ واحد يمكن أن يعكر صفو الرحلة، و هو أنها قد لا تجد أثراً لكاميرون هول. فقد أوضح الرد الذي جاءها أن أماكن المبيت متوفرة و لكنه ذكر كذلك بأنه ليس لديهم معلومات عن مستعمرة تحمل اسم كاميرون هول. و أسرعت خالتها توضح أن كاميرون هول قد بيعت بعد الحرب الأهلية بوقت قصير بسبب الضرائب. و أثارت احتمالا بأن تكون قد أطلق عليها بعد ذلك اسم آخر. و كانت اعادة تسمية المستعمرة أمراً شائعاً في ذلك الوقت. و رغم أن جولي كانت تريد أن تسرع في القيادة فقد استمتعت بوقتها و قسمت الرحلة إلى مراحل أكثر من أربعة أيام بقليل. و كانت تقود على مهل في الطرق الفرعية لتستمتع يالطبيعة الجميلة، و تجنبت الطرق الحديثة التي تتيح لها قيادة أسرع، و مع ذلك شعرت بنبض في قلبها يدق أكثر من العادة عندما دخلت سيارتها إلى حدود ولاية لويزيانا. و أحست كما لو كانت عائدة إلى وطنها. و كانت الساعة السادسة مساء و كانت جولي على مسافة تقل عن المائة ميل من مقصدها. و لولا رغبتها القوية في أن تستمتع برؤية ذبك القسم الأخير من الرحلة خلال ساعات النهار لأكملت السير، و لكنها قادت السيارة على مضض نحو الطريق المؤدي إلى أحد الفنادق الصغيرة بعدما قررت أن تستيقظ في وقت مبكر من اليوم التالي لتستأنف الرحلة و لتستمتع بمنظر الريف الجميل دون خشية منها لدى حلول الظلام. و في الصباح اخترقت الغايات الوطنية حول الكسندريا و هبطت الطريق إلى أوبيلوساس و لافيت و استدارت بها الطريق إلى سانت مارتنفيل في آخر مرحلة من الرحلة. كانت هناك لا فتة على الطريق وسط المدينة تدعوها إلى زيارة شجرة بلوط أيفانجيلين التي خلدتها أشعار لونغفيلو. و كان أمامها ثلاثة أسابيع للسياحة و كان عيها الآن أن تبحث عن مكان رخيص و مريح تقيم فيه. و وقفت بسيارتها أمام أحد المطاعم و قررت أن تسأل أحد الأهالي لعله يدلها على مكان تستأجر فيه غرفة تخدم فيها نفسها و توفر أجر الفندق و نفقاته. و بعدما طلبت فنجاناً من القهوة سألت الفتاة إذا كانت تستطيع أن تجد لها مثل ذلك المكان، و قدمت إليها الفتاة أحد الصحف المحلية لكنها لم تجد بغيتها في القسم المخصص لاعلانات، و عندما عادت الفتاة و معها القهوة سألتها:"هل تعرفين وسيلة أخرى أبحث فيها؟" و هزت الفتاة رأسها بالنفي و نظرت نحو الطاولة الكبيرة التي عليها المشروبات و تذكرت فجأة، كان هناك ثلاثة رجال يجلسون قرب الطاولة و قالت الفتاة:"ربما أجد لك مكاناً، دعيني أستوضح" و اتجهت الفتاة نحو الرجال الثلاثة ربتت على كتف أحدهم و أخذت تحدثه و هي تشير إلى جولي، و لم تمض ثوان كان الشاب قد حضر في صحبتها إلى حيث تجلس و كانت عيناه الزرقاوان القاتمتان تتأملانها بينما كانت الفتاة تقدمه إليها:"هذا غي لوبلان يا آنسة. أعتقد أنه يستطيع مساعدتك" و انسحبت الفتاة بعدما شكرتها جولي و قال الشاب: "انني سعيد بمقابلتك يا آنسة" و أدركت جولي من خلال ابتسامته أنه يريد أن يستأثر باهتمامها و قالت و هي تبتسم:"سمث.. جولي سمث" و شجعها على الحديث فقال:"أخبرتني دينسي التي قامت على خدمتك هنا أنك تبحثين عن مسكن تقيمين فيه" "نعم أبحث عن مكان أستطيع أن أستفيد فيه من تسهيلات المطبخ و لن تطول اقامتي أكثر من أسابيع قليلة، هل تعرف مكانا تتوفر فيه هذه الشروط؟" و أجاب غي لوبلان في هدوء و ضحك عندما رأى حاجبيها يرتفعان بشكل ظاهر و قال:"بيتي.. حيث يعيش أبواي أيضاً" و أضاف العبارة الأخيرة في لهجة مؤكدة ثم تابع يقول:"كانا في الماضي يأويان الغرباء و لو أنهما لم يستقبلان أحداً منذ مدة طويلة" "هل تظن أنه يمكن اقناعهما بالسماح لي بالإقامة؟" "أعتقد ذلك و لكن دعيني أصطحبك إلى هناك لتتحدثي بنفسك معهما. و لكن أحب أن أوضح أن في المكان حجرة نوم كبيرة، أما وجبات الطعام فتتناولينها مع الأسرة" و أخذ يعاون جولي لتزحزح كرسيها إلى الخلف بعيداً عن المنضدة. و عندما تحسست حقيبتها لتدفع ثمن القهوة تدخل غي و وضع قطعة من النقود على المنضدة و أشار إلى القائمة على الخدمة لتأخذ النقود ثمناً للقهوة التي شربتها جولي و قال:"إنه شرف لي" و عندما تركا المطعم أحست جولي أن من واجبها أن تتفحص الرجل الذي يسير إلى جوارها و قدرت أن غي لوبلان كان في بداية العشرينات من عمره كان نحيلاً و رشيقاً و شعره بني داكن أما ملامحه فكانت تتمشى مع نحولة جسمه. كان حاجباه قاتمين مقوسين و أنفه ارستقراطياً مستقيماً و فمه وسيماً. أما عيناه فكانتا تلمعان و تتلألآن و هما تعكسان الضوء. كان يلبس سروالاً قاتم اللون و قميصاً قنطياً زاهياً و مظهره يعكس إحساساً بالثقة و الارتياح. و أحست جولي أنه يدرك سحراً في نظراته يستغله كلما واتته الفرصة، و عرفت أنها ينبغي أن تحترس لذلك مستقبلاً إذا ما قدر لها أن تقيم معه في بيت واحد. كانت تعليماته محددة و هو يرشدها طوال الطريق إلى البيت. و كانت قد قدرت أنه ربما طلب أن يقود السيارة بنفسه، و لكنه علق بأنه يفضل النظر إليها على النظر إلى الطريق الذي يسيران فيه. و قال في النهاية:"البيت الأبيض على الناصية، هناك مكان للسيارات خلف المبنى" و أحست بغرابة مخترج الكلمات من صوته، لم تكن لهجته كلهجة أهل الجنوب. و اتبعت تعليماته و سارت بالسيارة إلى وراء المبنى. لم تكد السيارة تقف حتى خرج غي و استدار ليفتح لها الباب و أحست بشئ من القصد الشخصي في مجاملته لها. و لم تدر كيف تتصرف إزاءه، و حاولت أن تمد يدها إلى مقبض الباب لكن يده كانت هناك قبلها و امتدت يده الأخرى لتقودها إلى البيت. كانت الغرفة التي دخلتها حجرة لمعيشة الأسرة فيها مقاعد بيضاء و أرائك كثيرة، و كانت هناك شجيرات تعكس الخضرة الطبيعية في المكان، بعضها يتدلى من السقف العالي في أوان معلقة بينما كان بعضها الآخر من فصائل شجرة المطاط ينمو في أحواض خشبية ضخمة وضعت على الأرض المغطاة برقائق الفلين فيما استقر بعضها الأخير على المناضد كنوع من الزينة. و لم يكن غريباً أن تعكس الحجرة الجو الاستوائي بالنسبة إلى الحرارة و الرطوبة اللتين تميزان مناخ لويزيانا. و بادرها قائلاً:"إذا انتظرت هنا فسأحضر والدي" و أومأت بالموافقة، و ذهب ينقل الخبر، و وقفت جولي تحدق في الحجرة و تبدي ارتياحها إلى ما تراه. كان المبنى قديماً و لكنه معتنى به و يصعب تقديره، و سمعت طقطقة زوج من الأحذية آتياً من الردهة العريضة فتنبأت بعوة لوبلان و معه آخر. منتديات ليلاس "ها هو الضيف الذي أخبرتك عنه يا أمي" و كانت هناك امرأة قصيرة لا تصل قامتها إلى خمسة أقدام تقف إلى جانب غي، كانت ممتلئة الجسم على نحو جميل و تبدو عليها الأمومة بشكل واضح، و كانت خصلات من الشعر الرمادي تبدو في الكعكة التي استقرت فوق رأسها. و مدت يدها الصغيرة إلى جولي و قد أشرق وجهها بابتسامة:"قال ابني أنك تريدين مكاناً للإقامة يا آنسة سمث" و أومأت جولي و قد شدها الود البادي على وجه المرأة الأكبر سناً:"نعم" ووجهت السيدة لوبلان الكلام لابنها مداعبة:"إنها أكثر سحراً مما ذكرت لي، ألذلك تحرص على أن تقيم معنا؟!" و لم تستطع جولي أن تمنع احساساً بالخجل غمر وجنتيها، و لم تكن تريد أن تظن المرأة أنها تبدي أي نوع من الاهتمام نحو ابنها، و انطلقت من الأم ضحكة و ابتسمت باعتذار ثم قالت:"إنه مجرد مزاح، إن ابني يعتقد أن له اغراء لا تقاومه النساء، خذي حذرك من نزواته الغرامية و تجاهلي ثلثي كلامه المعسول" و تنفست جولي الصعداء و قالت:"لديك حجرة تؤجرينها؟" و ترددت، فقد تذكرت أنها لم تٍأل عن الايجار، و أحست بالاحراج فقد كانت تعامل كضيف و مع ذلك الرقم معقولاً في حدود طاقتها، لقد وجدت مكاناً للاقامة في مكان طيب و مع أسرة ودودة. و تدخل غي متسائلاً:"قولي لي يا آنسة سمث، لماذا أخذت سانت مارتنفيل مكاناً تكضين فيه أجازتك؟ لماذا لم تختاري نيوأورليانز و هي أكثر تألقاً؟" و أنبت السيدة لوبلان ابنها بقولها:"غي! إن لدينا الكثير يعجب الزوار، فهناك متحف المنزل الأكادي و سوق الحرفيين و متحف التراث الأكادي في لورفيل، و المناظر الفخمة في نيوأيبيريا، ثم ما رأيك في جزيرة آفري؟ و مدينة الطيور فيها و الحدائق البرية؟" و وجهت الكلام لجولي:"لا تصغي إليه، هنالك الكثير الذي سيعجبك. و إذا أردت أن تزوري نيوأورليانز فهي رحلة قصيرة من هنا" و أظهرت جولي موافقتها و ترددت في التصريح عن غرضها الأساسي ثم قالت:"هناك سبب آخر جعلني أحضر إلى هنا. فأحد أسلافي عاش في المستعمرة هنا و سميت بالفعل باسمه جولي أنطوانيت سميث و هي كاميرون هول، و ربما سمعتم بها؟" و حبست أنفاسها بينما صمت الاثنان برهة قبل أن يجيبا، هز غي كتفيه ثم هز رأسه بالنفي و ابتسم ابتسامة طفيفة و لكن أمه لم تستسلم بالسرعة ذاتها و سألتها جولي:"هل تعرفيت أين موقعها من هنا؟ كل ما أعرفه أنها تبعد عشرة أو خمسة عشر ميلاً من سانت مارتنفيل" و علقت المرأة في صوت ينم عن الحزن:"ليس هذا كثيراً. و لكن الزمن لم يكن رحيماً مع الكثيرين من المنازل القديمة، حتى إن لم يأت عليه النمل الأبيض أو النار أو القدم، سقط أمام الأعاصير أو زحفت إليه يد التقدم" و تنفست جولي بعمق و قالت:"ألا تظنين أن هناك أملاً في أن أجد تلك المستعمرة؟" و كان مظهرها يوحي بأنها لن تستسلم دون أن تبذل المحاولة و قال غي:"هناك بعض الأماكن القليلة المهجورة تنتشر في الريف" و بدأت السيدة لوبلان تسأل من جديد:"ما الاسم مرة ثانية؟" "كاميرون هول" و التفتت إلى ابنها تسأله:"هل تعتقد أنه قصر ايتيان القديم؟" و هزت رأسها ثم قالت:"لكن لا، كان هذا يحمل اسم المعبد لقد خلطت بين المستعمرة و بينه، و مع ذلك فإن غي مصلع على هذه المسائل. سوف نسأله لعله يعرف المكان الذي تبحثين عنه. و الآن لتستريحي في بيتنا، هيا يا غي أحضر حقائبها بينما أقوم بإرشادها إلى حجرتها، هل تأذنين بأن أناديك جولي؟" و أعطت جولي مفاتيح السيارة إلى غي و صممت على أن يناديها باسم جولي. و بدأت تتبع السيدة لوبلان عبر الردهة العريضة إلى الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي. و هنا لاح لها السر وراء اللهجة الغريبة في أسلوب لوبلان في الحديث، كانت اللهجة فرنسية و استفسرت جولي و هي تقبض بيدها على الدرابزين الخشبي:"هل عشت و أسرتك هنا منذ زمن طويل؟" و أجابت السيدة لوبلان بسرعة:"في سانت مارتنفيل، كل حياتنا أنا و زوجي اميل، لقد اشترينا هذا المنزل بعدما تزوجنا بسنوات قليلة، كان زوجي بارعاً في مهاراته اليدوية، و رغم أن المنزل كان في حالة سيئة فقد عمل زوجي على اصلاحه حتى صار على الحالة التي ترينه فيها" و أومأت جولي و قالت:"إنه جميل للغاية. هل جاءت أسرتكم من فرنسا أصلاً؟" و استدارت السيدة لوبلان لتجيب عن السؤال بأسلوب مهذب في شئ من الثقة:"إنك لا تعرفين تاريخ لويزيانا" و اجمر وجه جولي خجلاً و هي تجيب:"أعرف فقط ما يعرفه معظم الناس و القليل مما تحويه كتب التاريخ" و أحست أنه فاتها القيام بشئ من الدراسة قبل أن تقوم بالرحلة إلى ذلك المكان. "إذن فأنت لم تسمعي قصة الشعب الأكادي؟" و هزت جولي رأسها و قالت أنها لم تسمع تلك القصة. و واصلت السيدة لوبلان:"لكنك سمعت بقصة الكاجون؟" و ابتسمت السيدة لوبلان عندما أومأت جولي بالموافقة، و مضت تقول:"كان الأكاديون مهاجرين من فرنسا إلى كندا حيث أقاموا في نوفا سكوتشيا. و عندما طالبت انكلترا بمقاطعة كندا كانت تخشى المستعمرة الفرنسية الكبيرة، و لذلك خيرتهم بين العودة إلى فرنسا و الإقامة في المستعمرات الأمريكية. و اختار أكثر من نصفهم المستعمرات حيث انتشروا فيها و تشتت شمل كثير من الأسر و المحبين و ظل بعضهم يبحث لسنين قبل أن يجدوا أحبابهم. و بعد ذلك بنحو عشر سنوات هاجر أولئك الاكاديون إلى لويزيانا. و كان أصحاب المستعمرات الكبيرة قد استولوا على الأراضي الخصبة على ضفاف المسيسيبي، و لذلك استقر الاكاديون على طول الرافد، و بعدما اشترت الولايات المتحدة مقاطعة لويزيانا من فرنسا وفد الأمريكيون إلى الأراضي الجديدة و قابلوا تلك الشعوب الاكادية. و لكنهم نطقوا اسم الاكاديين بطريقة محرفة كاجون. و هكذا ترين أن أكاديين و كاجون هما لفظة واحدة و ترجع سلالة أسرتي إلى أولئك المستعمرين الأكاديين، فنحن أمريكيون من أصل فرنسي كندي" و طقطقت السيدة لوبلان كلامها و قالت في اعتذار:"لم أكن أقصد أن ألقي درساً في التاريخ، و لا أريد أن أصدع رأسك قبل أن تنعمي بشئ من الراحة في حجرتك، تفضلي و اتبعيني" و ابتسمت جولي و قالت:"أؤكد لك أنني لم أتصدع على الإطلاق بل كانت في ذلك فرصة كبيرة للتعلم. إن ما سمعته منك الآن يقنعني بأنني سأجد كثيراً من الاستمتاع" "آمل ذلك" و سارت المرأة أمامها عبر الردهة تتساوى في سعتها بالردهة السفلى و تابعت:"يقع الحمام عند نهاية الردهة أما حجرتك فهي هنا" و فتحت أحد الأبواب و خطت إلى الخلف لتسمح لجولي بالدخول، و قالت:"هل تعجبك؟" "إنها فسيحة للغاية" و وجدت جولي نفسها في حجرة فسيحة ذات سقف مرتفع و لها نافذتان ضخمتان تمتدان من الأرض إلى السقف و في أحد الأركان كان مكتب صغير و كرسي بالاضافة إلى مقعد وثير له مساند مريحة و مصباح أرضي و سرير لفرد واحد، بالاضافة إلى تسريحة من خشب الاسفندان، و كانت هناك سجادات صغيرة ذات لون سماوي فاتح تنتثر على الأرض الخشبية المصقولة اللامعة تبرز ألوان الباستيل التي صنع منها فراش السرير و مساند المقعد. و كان الانطباع العام الذي يوحي به المكان هو السعة و الهدوء و الراحة. و أخذت السيدة لوبلان توضح:"كانت هذه حجرة ابنتي الكبرى قبل الزواج. إنها فسيحة ما يسمح لك بالحرية الشخصية دون أن تشعري بالضيق" و شعرت جولي بارتياح أكبر عندما دلتها السيدة لوبلان على الباب المستتر الذي يؤدي إلى المرحاض الخاص بها. و سألتها:"كم طفلاً رزقت؟" "خمسة. و اثنان من بناتي قد تزوجتا. أما كلودين فتعيش معنا بعضاً من السنة، و ابنتي الصغيرة ميشيل تعمل مدرسة هنا. و أخيراً الولد المدلل غي" و أطل غي برأسه من الباب ضاحكاً:"الصغير المدلل، هل لي أن أدخل لا أريد أن أقطع الحديث إذا كنت تنوين أن تمتحنيني أمام الآنسة جولي سمث" و غمزت السيدة لوبلان بعينيها و هي تقول لجولي:"ها هو ذا يعترف بأنه مدلل" و أشارت يدها الجميلة إلى ابنها كي يدخل و هي تقول:"أدخل بالحقائب يا غي إنني أعرف أن هناك بعض المهام التي يجب أن تنجزها حتى تجد ضيفتنا الجديدة فرصة لتستريح" و وضع غي الحقائب بالقرب من الفراش و قد استقرت عيناه القاتمتان على جولي إلى درجة جعلتها تعتقد أنه كان يريد أن يجعل قلبها يدق له. و حاول أن يلفت النظر إلى كونه سوف ينصرف، و تنهد طويلاً و هو يحييها و يعد بأنه يتطلع إلى رؤيتها فيما بعد. و عندما ترك الحجرة التفتت السيدة لوبلان نحوه و ضحكت و هي تقول:"إبني العاشق.. سأتركك الآن لتفرغي حقائبك و سنتناول وجبة باردة في الأولى بعد الظهر. و حجرة الطعام هي الثانية إلى اليمين بعد السلم".
الفصل الثالث
شجرة الذكرياات ..
تحدثت جولي في لهجة امتزج فيها السؤال و الا ستفسار فقالت : "ألا تعمل في أي مكان يا غي " ورد بسخرية وهو يدس يدها في حزم تحت ذراعه وهما يهبطان الممر الجانبي : " أتكون جريمة كبيرة اذ لم أعمل ؟ " "إنه يكون اهدارا " " و هل يخيب املك اذا لم تكن لي مهنة معينة " " و لماذا يخيب املي بسبب ذلك ؟" " لأنني اعرف ما ذكرته أنك سليلة أسرة مكافحة ، ولذللك أي رجل يتكاسل يكون في رايك سيء السمعة و أنا أريد ألا تظني بي سواء . و أعترف انني اعمل محاسبا رغم أن عملي لا يزال محدودا " كانت دهشة جولي تنعكس على وجهها ولم يكن بوسعها أن تخفيها ولم تكن تعتقد أن غي لويلان برقته و دمائته يمكن ان يشتغل وظيفة في المحاسبة ولو أخذ برايها لأختارت له وظيفة في مجال العام " " أن الشكوك التي تر تسم على وجهك تجرح كبريائى ، أنني أعمل لنفسي وليس هناك من يسألني عن عملي سوى نفسي ، وأحصل على دخلا وفير مقابل وقت قصير أخصصه للعمل . وهناك اوقات أجد فيها نفسي مثقلا بالعمل وأوقات و أكثر لا يكون لدي فيها الأ القليل مما يشغلني . وفي الحالة الاخيرة أجد الفرصة لاصطحاب الصغيرات الجميلات عبر المدينة لمشاهدة المعالم الهامة . اليس ذلك رائعا في نظرك ؟" و ابتسمت جولي ابتسامة ذكية أبرزت خطين شديدي الغور في وجنتيها وهي تقول : " أعتقد انك تريد ان تظهر في مظهر الخبث مع أنك ليست كذلك تماما" " أن النساء يحبين الخبثاء الذين لهم سحر الثمرة المحرمة . بالأضافة الى أن النساء يولدن ليقمن بالأصلاح ويجدن تلذذا في أن يصعبن مني رجلا شريفا . أما اذ حدث عن الصواب فلا حيلة لي في ذلك لأنها طبيعة في " وعلقت جولي : " و الأمان بالطبع في ان يكون حولك منهن الكثيرات " و تعمد ان يسير في خطيء أبطأ وقال : " أعترف لك أن ظهري قد انحى من كثرتهن و تستطيعين ان تكوني منقذتي " . و أطلقت جولي ضحكة نمت عن عدم التصديق وقالت : " أنا ؟ لماذا ؟ " " لأنك تستطيعين ان تجعلي الرجل يتطلع الى التغير " قال ذلك وقد بدا في نظرته شيء يدل على الجدية رغم الابتسامة الواضحة و ابتسمت جولي وقالت : " بعد واحد و عشرين عاما واظبت فيها على النظر الى المرآة أعرف تماما ان نصيبي من الجمال لا يمكن ان يثير اهتمام أي رجل وفرر على نفسك الاطراء لانه لن يجد في نفسي مكانا يا غي " و تحدث غي في إصرار : " إنني اقول الحقيقة . لو أنك كنتى في قاعة مع أجمل النساء العالم سيظل وجهك يلح على ذاكرة أي رجل سوف يعاوده خياله الهاديء المثير . و أعترف أن في تعبيري بعض التناقض ولكن هذا هو السبيل الوحيد لوصف ذلك المزيج من النمش الباهت مع الخطوط التي تظهر في الوجه ومع العينين البنيتين الرقيقتين ، إنك تجعلين أي رجل يستغرق في التفكير عندما ينظر اليك " وأومات جولي براسها قائلة : " أنك تتحدث عن فتاة تأخدها الى بيتك لتقدمها الى امك " كانت قد احست بصدق كلماته ولكنها شان كل النساء كانت تتمنى أن تكون من النوع الذي يخلب لب الرجال ويدير رأسه ليجعله يفكر في أي شيء دون ان يكون للزواج دخل في ذلك . وصحح لها غي في هدوء قائلا: " بل أقول الفتاة التي يزهو بها كل الزهو وهو يصتحبها الى امه " " اعتقد انك تعاني عدم وجود منافس " كان الحديث قد تركز حول المسائل الشخصية بطريقة لم يكن جولي تريدها وكان من الضروري تغير الموضوع ، وضحكت جولي ثم تابعت : " أين نحن الآن من شجرة البلوط ؟ " " أنها عند الناصية المقبلة " وسألها : " هل تعرفين قصيدة لونغ فيلو المسماة ايفا نجيلين ؟ " " أعرف مغذاها فقط ، أذكر أن أيفانجيلين افترقت عن خطيبها غابريل وظلت تبحث حتى وجدته على فراش الموت في المستشفي " " هل سمعتى القصة التي وراء القصيدة ؟ " وعندما نفت استمر غي يقول : " كانت احدى الاسر الاكادية قد تبنت فتاة يتيمة تدعى اميلين لابيس وقامت بتربيتها في منزل الاسرة في نوفاسكوتيا . وعندما بلغت الفتاة السادسة عشر كانت ستتزوج لويس أرسينو من القرية ذاتها وذلك في الوقت الذي يقوم الانكليز بنقل الاسر الاكادية خارج كندا . وحاول لويس ان تقاوم رحيله لكنه أصيب وأخرجه الانكليز . وهكذا افترق عن اميلين التي تم ترحيلها على سفينة أخرى فاستقر بها المقام ، وبالاسره التى كانت تبنتها ، في ولاية ماريلاند . ولم يكن تعرف مصير لويس وبعد بضع سنين سمعوا عن استقرار بعض الاكاديين في لويزيانا ، و اصطحبت اميلين اسرتها الى هنا ، وعندها نزلت من القارب فوجئت بالرجل الذي عانت بسببه طوال تلك السنين تحت شجرة البلوط ضخمة ، ومع ذلك لم تتم سعادتها لان لويس كان قد ارتبط بامرأة أخرى . وتمضي القصة لتقول ان اميلين ظلت تتحدث عنه حتى وفالها كما لو كان قد مات أو انتقل الى ارض بعيدة . و أبطأ خطواته ثم توقف وأضاف : " ويقال أن هذه هى شجرة البلوط التي وجدت اميلين خطيبها عندها ثم فقدته " . وراحت جولي تحدق الى شجرة البلوط الممتدة امامها بضخامتها التي جعلت الحديقة تتضاءل الى جانبها . و كانت مياه نهر صغير هاديء قد تتلألأ على البعيد . كأن المنظر يعبر عن كآبة صامتة في وسط المدينة ، وكانت هذه هي شجرة بلوط ايفانجيلين . قال غي بينما كانت جولي تحدق في الشجرة بحجمها الكبير وأغصانها الضخمة : " أعتقد من السخرية أن يكون المبني الذي يضم متحف الأكادي هو ذاته الذي عاش فيه لويس و زوجته الجديده ، ولدينا مبني تذكاري لكل منهما " وشقت جولي طريقها عبر العشب الأخضر الى المياه الباديه لهما وهي تقول " و النهر الذي في الجانب الآخر من الشجرة ؟ أليس ذاته الذي عبر فيه قارب اميلين " " دعينى اصحح ما قلته إن هذا الرافد بل هو على وجه التحديد رافد تيشه " وأدارت جولي عينيها المعبرتين عن الحيرة نحو الرجل النحيل بجوارها وقالت " يبدو لي كانه نهر صغير . كنت أعتقد دائما ان الرافد مستنقع أو على الاقل منطقة مستنقعات " و أخذ غي يوضح في هدوء " إن احد الفرنسيين الأوائل اطلق عليه اسم مياه راكدة عندما رآه للمرة الاولي لأنه لا يبدو فيه أثر للتيار . و الحقيقة أن المياه تنساب فعلا لكنها قد تغير اتجاهها في وقت آخر لسبب غير واضح " " إنه ينساب في أسترخاء على الطريقة الفرنسية . وكلمة تيشه فرنسية ، ولكن ما معناها ؟ " " ليس بالظبط . أنها تحوير لكلمة هندية تعني الحية خففا الفرنسيون لسهولة النطق " وتنهدت جولي و التفتت الى غي قائلة : " أمامي الكثير لأتعلمه " " حسناً " و التفتت اليه بسرور ودهشة قائلة " لماذا " " اذا كان لديك الكثير لتتعلمه فيمكننا أن نقنعك بالأقامة فترة اطول .وهذا سعدني كثيرا " قال ذلك وهو يحاول ان يؤثر فيها بابتسامة وفاجاته بسؤالها :" يا له من غرور ! " وتوقفت احدى السيارات قرب حاجز المنتزه الصغير وراحت تطلق نفيرها حتى جذبت اهتمام كل من غي وجولي . و أخذت الفتاة ذات الشعر القاتم الجالسة الى عجلة القيادة تلوح لهما . وقال غي " و الآن ، هل تصديقين مدى شعبيتي ؟" وكان كتفاه قد ارتفعا في زهو وقد اسسسلم ساخرا للأقدار " وصاحت الفتاة التي تقود السيارة " هل تريدان ان أوصلكما الى البيت ؟" و التفت غي الى جولي قائلا " انها مسافة طويلة هل تفضلين الركوب ؟ " وعلقت جولي في لهجه مداعبة " لا أريد أن أتسبب في كرمشة ثيابك ، كما لا اريد أن أكون مثار حقد من جانب فتاتك " و أجاب بالقدر ذاته من الفكاهة " اعتقد أنني استطيع أن أتعامل مع أمراتين في وقت واحد . ولقد نسيت أن اخبرك أنني كنت ماهرا للغاية في الشعوذة ." " حسنا . سوف نركب معها الى البيت . انني اتوق الى رؤيتك تمارس غرامياتك . " وضحكت ، وقبلت أن تستند الى ذراعه وهو يسير بها الى السيارة . وبينما كان يساعدها على الصعود الى المقعد الأمامي علقت الفتاة قائلة " لقد أخذتما وقتا وطويلا قبل ان تحسما رايكم ! ألم تدركا انه لا يوجد في هذه المنطقة مكان للأنتظار ؟" و أجاب غي " كنا نناقش ما اذا كنا نفضل العوده سيرا على الاقدام ." والقت جولي عليه نظرة ، بعد التأنيب الذي لقيه من قائدة السيارة ، لعلها تفهمه أن وسامته لم يكن لها تأثير كبير على تلك الفتاة . " في هذا الجو الحار تريد اللهو – لماذا ؟ ان المشى في الحر قد يوهن صحتكما بشكل ضار ." وغيرت الفتاة ذات الشعر القاتم مقود السرعة وسارت وسط الطريق العام ، و اختلست نظرة قصيرة الى جولي تتفحصها فيما كانت الأخيرة تفعل الشىء نفسه ، وكانت قائدة السيارة على شى من الجاذبيه ، وكان شعرها البني أكثر قتامة من شعر جولي دون أن يكون اه سواد شعر غي . كان متوسط الطول وفيه خط فارق على الجانب . وكان ينثني الى أعلى ليسهم في اكتساب وجهها النحيل جمالا ، وكانت تضع نظارة باطار مذهب أضفى على عينيها القاتميتين ضياء زاد من جمالها . وابتسمت الفتاة ابتسامة سريعة وجهة الى جولى وهي تقول " اذا كان غي لايعينه أن يقدم كلا منا الى الاخر ى فلنفعل ذلك بانفسنا . انني شقيقته ميشيل " " اسمي جولى سمث وقد استاجرت حجرة من أبويك لأيام قلائل " قالت ذلك وقد ألقت نظرة جانبية على ملامح غي المهذبة . " لقضاء عطلة ام تتعتزمين الاقامة " " عطلة ." "و أخي العزيز جدا كان يصتحبك في جولة سياحية " ونظرت ميشيل الى غي نظرة لها مغزاها رد عليها بملامح برئية ، اضافت في ابتسامة " كيف تنجح دايما في العثور على الجميلات ؟" " انني مغناطيس ، وهن يجذبني كذلك . كيف حال التلاميذ الصغار المزعجين اليوم ؟" ورفعت ميشيل عينيها تجاه السماء وهى تقول " لا تسأل !" وظهرت على وجهها نظرة ساحرة حزينة وهي تلتفت الى جولي لتقول " أعمل هنا في التعليم ، هل تصدقين أن أحدهم قد أخرج الحرباء من الصندوق الزجاجي وصارت تتسلق السرير الخاص بأحدى التلميذات . ولقد سمعت من الصراخ اليوم ما سوف يظل صداه في أذني سنوات . وأظن ان الحرباء الصغيرة قد أحست ببالسعادة عندما أعيدت الى عالمها الزجاجي " وقال غي لجولي " لا تصدقي هذه الشكوى ، فانها تحب عملها بالقدر الذى يغرم به الاولاد بالبنات " وهزت جولى رأسها في أسف ، وقالت " ان عقلك يتجه دايما الى موضوع واحد " وعلقت ميشيل موافقة بقولها " هل لاحطت انت ايضا ذلك ؟ " " لقد جعلني اعتقد أنك واحدة من العديدات المتيمات به " و اعترض غي قائلا " حسنا . أرجو ان تكفا الانتما الاثنتين عن مها جمة رجل مسكين اعزل . كيف يحتفظ جولى بتقديرها لى اذا ما عاملتني بهذه الطريقة الساخرة ؟" وهمست ميشيل قائلة " طبيعة الرجل الهشة ! " وضحكت جولى لذلك ، وصاح غي متصنعا الغضب " ألم تعلمك أمنا ان الهمس امر غير لائق ؟ أرجو يا جولى ان تتجاهلي ماقالته لك ." وضحكت شقيقته ،وقالت " لابد ان تجد من يحذرها ضد سلوك شبابنا في الولايات الجنوبية "
* * * * * *
ووصلوا الى بيت لويلان و عندما اوشك غي ان يستانف شجاره مع شقيقته ظهرت الام عند قوس الباب الخلفي لترحب بهم . كانت تجربة غير عادة بالنسبة الى جولى و أحست بأنها تألف تماما اولئك الناس الذين لم يسبق لها أن تعرفت عليهم من قبل يوم . فتحوا قلوبهم واذرعتهم بالصداقة . وأخذ غي يسأل " حسنا . ما رأيك في شقيقتي ؟" و كانت ميشيل قد استجابت لأمها التي طلبت منها ان تحمل اوراقها الى داخل البيت ، و اجابت جولى في ابتسامة " إنها رائعة " " هل تصدقين انها مولعه بمدرس التاريخ القديم و أن سقراط و يوريبيدس هما المنافسان لها " ومثل قبضة موجهة اليه على سبيل المزاح قبل أن يضع حدا للمنافسة بيته وبين شقيقته عندما دخلت الام حجرة المعيشة . كانت تحمل صينية عليها ابريق ملئ بعصير الليمون وبعض الاكواب ، ولم يكن الامر يحتاج الى اقناع أي منهم بالمشاركة في الشراب المنعش . وقالت السيدة لوبلان " لقد تلقيت خطابا من كلودين اليوم سوف تعود الينا مع نهاية الاسبوع " وبدا أن غي لم يسعد بالخبر قد ظهر ذلك على ملامحه أكثرمما بدا على كلماته وهو يقول " وهل تطول اقامتها هنا؟" و أجابت الام " أعتقد انها ستقيم معنا حتى موسم الاجازات " وبدأ الصمت يسودالمكان . وعلقت جولى قائلة " لابد انها تعمل في مكان ممتاز يسمح لها بان تستمتع بكل هذا الوقت " وبدات السيدة لوبلان توضح فقالت " ابنتى فنانة وتعرض لوحاتها في نيواورليانز خلال الأجازات في فصلى الصيف و الشتاء . أما الباقى السنة فإنها تمضيه هنا ترسم لوحات الكنفا الجديدة ليكون لديها باستمرار رصيد كاف " ونظرت جولى الى كل من ميشيل وغي تتوقع منهما ان يشعرا بالزهو الذي تشعر به امهما ، وقالت " لابد أنها ناجحة الى حد ما " واومات الام في سرعة وقالت " نعم ، انها كذلك ، وأكاد أقول إن اللوحات التي ترينها هنا من كلودين " وتذكرت جولى على الفور اللوحتين اللتين تزينان جدران حجرتها ، كانتا تمثلان باقات من زهور الربيع بينها توافق و انسجام . ومع ذلك تختلف كل لوحة عن الاخرى في محتوياتها . وقد رسمت الزهور على ارضية لونها أزرق رمادى ، ونسقت الزهور في آنيتين صنيتين متماثلتين في الشكل ، يشيع فيهما اللون الازرق الفاتح . وقدرت جولى أنه اذا كانت كلودين هى التي رسمت تلك اللوحات فلابد انها فنانة ناجحة للغاية . وعندما سالت السيدة لوبلان عمن . رسم تلك اللوحتنين اكدت أنها كلودين . وكانت الام على استعداد للأستمرار في تمجيد انتاج كلودين لولا دخول زوجها . كان اميل لوبلان ضيئل البنيه ويبدو كشاب نحيل القوام وكان شعره فيما مضى قاتما كشغر غي ولكن الشعر الابيض و الرمادي بدأ يزحف على جانبي رأسه وعلى مؤخرة رقبته . وبعدها حيا اسرته وطبع قبلة محبة على وجنة زوجته استدار نحو جولي مبتسما ومستفسرا " من الآنسة الجميلة التي تشرف حجرتنا يا جوزفين ؟ " وبدات السيدة لوبلان بها كريما كباقي أعضاء الأسرة ، بل كان فيه وع من المداعبة الودودة كترحيب غي بهاقال " جولى انطوانيت . هذان الاسمان فرنسيان ربطا اسم آخر شائع الاستعمال مثل سمث " وبدات جولى تشرح من جديد أسباب قدومها الى سانت مارتنفيل في محاولة للتعرف على مكان المستعمرة التي عاش فيها اجدادها ، الى جانب رغبتها في القيام بسياحة في المعالم المحلية . وكانت اجابة اميل لوبلان هي الاجابة غير المحددة كما فعلت زوجته وابنه من قبل عندما ذكرت جولى كاميرون هول وإن كان قد ابدى حماسه للمشاهد المتوفرة في المنطقة . وقال " ينبغي هنا أن نضع لك خطة لسياحة المنطقة حتى لا تفوتك شيء خلال اقامتك" ونظر الى ابنه وابنته ليتحملا ذه المسؤليه ، واضافت السيدة لوبلان في حزم " لايزال هناك وقت لذلك فيما بعد يا بابا . و أعتقد ان جولى تفضل أن تكمل شرابها وتأخذ حماما قبل العشاء . فهى لم ترتح بعد رحلتها الطويلة ولم تتعود على الرطوبة العالية عندنا ولا ينبغي ان نفرض عليها خططنا بأي حال " وأوما الأب يقول " حقا، حقا " و التفت الى جولى معتذرا لكنها اكدت له " انني غريبة تماما عن هذه المنطقة يا سيد لوبلان ، وأكون شاكرة حقا لو تفضلت بأي اقتراح " " مع ذلك فإن زوجتي على صواب فهذه المناقشات ينبغي أن تؤجل الى ما بعد العشاء " والتفت ذراعه حول زوجته وقال " ماذا ستقدمين لنا الليلة ؟ هل فكرت في طبق خاص لضيفتنا الجديدة ؟ " " ليس الليلة . دعها تتعود على مناخنا أولاً ثم مطبخنا " حاولت جولى ان تعبر عن الاحساس الذي تملكها وهو الشعور بالذنب لأنها أقلقت حياتهم . ولكن اعتذارها لم يكن له مكان ، فقد أكدت لها السيدة لوبلان انها لم تسبب لهم ادني قلق . ولم تملك جولى إلا أن تستسلم ، فقد كانت هى الآخر تستمتع بدفء كبير في محيط الأسرة .
4- عينان في الغابة
كان الصباح قد استسلم إلى شمس الضحى في اليوم التالي قبل أن تطمئن السيدة لوبلان إلى أن جولي قد زودت بما يلزمها من الطعام و الشراب و الكتيبات و التعليمات التي تمكنها من السياحة يوماً كاملاً، و جلست جولي في أمان خلف عجلة قيادة سيارتها و أخرجتها من الممر. لم تكن جولي تعرف وجهتها رغم الأماكن العديدة التي رشحت لها، و كان الجو ينبئ بطقس يميل إلى الحرارة. لذلك فضلت ألا تتجه نحو زيارة المتاحف. و اختارت أن تسلك الطريق الجانبية التي تحيط بسانت مارتنفيل، و تستكشف الطبيعة من منظور آخر غير القيادة على الطرق العامة. و كانت تعتزم التوقف فيما بعد، عندما يحل جو المساء اللطيف أمام المنتزه العام الذي يحمل اسم لونغفيلو. و سلكت طريقاً يتجه من المدينة شرقاً و تركت وراءها سانت مارتنفيل. كان الطريق خالياً و تركت سيارتها تسير بالسرعة التي أرادتها تبطئ عندما يشد عينيها منظر يثير الاهتمام و تسرع لتجعل الرياح المتولدة عن حركة السيارة تداعب وجهها. كانت مزارع قصب السكر تنتشر في المكان و بعض جذوعه تعلو فتظلل السيارة، بينما بعضها الآخر لا يكاد يصل إلى النافذة. و انتشرت على جانبي الطريق منازل لم تكن تختلف في مظهرها عن امتثالها في مسقط رأسها، مع ذلك كانت من وقت إلى آخر تلمح بيوتاً تتكون من طابقين و قد تراجعت إلى الداخل بعيداً عن الطريق تاركة أمامها مرجاً أخضر يشقه طريق يؤدي إلى البيت تحدده صفوف من أشجار البلوط. و كانت تخفف السرعة في محاولة للعثور على أية محاولة للعثور على أية اشارة عن كاميرون هول، و لكنها كانت تصاب دائماً بشئ من الاحباط. و استسلمت لرغبة استولت عليها تدفعها للقيام بشئ من المخاطرة. و تركت الطريق المرصوف إلى آخر تغلب عليه الأصداف البحرية، و زادت كثافة مزارع القصب على جانبي السيارة حتى أحست بأن جذوعه البارزة تكاد تبتلعها. و بدت بعض أغصان الأشجار من بعد تمثل مرفأ الأمان بعد مزارع القصب الممتدة. و توارت جذوع القصب لتفسح مكانها لأشجار البلوط ترتفع في كآبة من مستقرها المائي تغطي أغصانها الطحالب الاسبانية. و بدت الزنابق المائية الجميلة تتصارع مع الطحالب لتبرز على سطح أوراقها الخضراء التي تستسلم للجزر الصغيرة من أعشاب المستنقعات و الأوراق ذات الرؤوس الناتئة من أشجار النخيل القصيرة بسعفها المروحية الشكل. و أبطأت السيارة سيرها لتلقي جولي نظرة على الحياة البرية في المستنقع. و سمعت بعض الطيور تصفق بأجنحتها و لكنها لم تر أثراً للحياة. و خاب أملها فقد كانت تحلن برؤية تمساح بري و أقنعت نفسها بأن ذلك مستنقعاً صغيراً، بل مجرد مصفاة لا يمكن أن تأوي تمساحاً نظراً إلى قربها من مناطق السكن و على بعد أقدام أخرى كان المستنقع قد تحول إلى أرض للمرعى، و بدت قطعان الحيوانات ترعى العشب الكثيف في منظر لم تألفه جولي. و كانت تظن أن تلك الماشية تكثر في المناطق البرية من الولايات المتحدة، لا في ولاية لويزيانا. و استدار الطريق في منعطف سهل حول المراعي و وجدت جولي إن على الجانب الآخر من الطريق خطاً متعرجاً من الماء سرعان ما اكتشفت أنه رافد كانت أشعة الشمس تسطع فوق سطحه بشكل جعله يعكس صفاء منظر هادئ. و كانت هناك رافعة تجرف من الشاطئ المقابل حيث كانت أغصان شجرة البلوط تتدلى فوق الماء. و خطر لجولي أنه مكان رومانتيكي تسعد فيه بتناول طعام الرحلة الذي أعدته السيدة لوبلان. و كان هناك مدخل لبوابة على الجانب الآخر من الطريق يدعوها إلى أن تستفيد منه كموقف للسيارة حتى لا تعيق المرور، فأحسنت الاستفادة منه. و عبرت الطريق تحمل على احدى ذراعيها سلة الطعام و السجادة الصغيرة، و تحمل الذراع الأخرى الترموس و حقيبة يدها. و قفزت عبر حفرة مليئة بالماء كانت تفصل الطريق عن الرافد دون أن تزل قدمها أو يسقط شئ من يدها. كانت وطأة حرارة الجو تنتشر عبر المكان، و كانت أي حركة تبدو بطيئة واهنة تشبه قوائم الرافعة التي ترتفع و تنخفض في وهن شديد. أما أصوات الطيور فقد خرست، و حتى صوت الماء الخافت و هو يعانق ضفة الرافد لم يكن مسموعاً. و تجمعت حبات العرق على جبهتها لتفترس أطراف شعرها الهشة و تزحف إلى شفتها العليا حتى تسربت الملوحة إلى فمها. و انحنت على العشب القصير و فرشت السجادة الصغيرة و أخذت ترتب الأشياء إلى جانبها. كانت السيدة لوبلان قد وضعت في سلة الرحلة فوطة في كيس من البلاستيك استخدمتها جولي في إزالة آثار العرق عن وجهها، و أحست بالانتعاش عندما بدأت الرطوبة الجديدة تتبخر عن بشرتها. و أحست بفتحة قميصها القصير المبطن بشريط من البلاستيك تضايقها فجذبت الكمين القصيرين إلى أسفل حتى بدا خط الرقبة مستقيماً من الكتف إلى الكتف. و خفضت رأسها إلى الوراء و عصرت الفوطة فتدحرجت قطرات من الماء فوق كتفيها تسلل بعضها إلى صدرها. و أخذت عيناها تتفحصان المكان المحيط بها. و على أمتار قليلة كانت هناك شجرة بلوط صغيرة تركزت عيناها على أغصانها العليا و انتقلتا إلى الجذع ثم إلى أسفل الشجرة. و توقفت يدها فجأة عن الاستمرار في عملية الترطيب التي كانت تقوم بها، فقد وقعت عيناها على رجل كان يسترخي هناك. و سرت الدماء في وجنتيها من وقع المفاجأة، فقد كانت عيناه تتفحفانها في جرأة. و أسرعت يدها تعيد كمي قميصها إلى وضعهما السابق، و أدرك الرجل أنها لاحظت وجوده فنهض على قدميه و خرج من ظل الشجرة ووقف على بعد خطوات منها و لم تملك إلا أن تتراجع إلى الوراء. و تحدث في اغراء قائلاً:"إنه ليؤسفني أن تحجبي هذين الكتفين الجميلتين" و تسارعت دقات قلبها و امتدت يدها لتجمعا حاجياتها و تلعثمت قائلة:"إنني.. إنني آسفة.. لم أكن أعرف أن أحداً هنا.. سوف.. سوف أجد.. مكاناً آخر" "لا حاجة بك إلى ذلك فأنل أرحب يأن تشاركيني الاستمتاع بمنظر ذلك الرافد" كل شئ في صوته المهذب يجبرها على أن ترفع بصرها نحوه، ووجدت نفسها تحدق في عينين لم يسبق لها في حياتها أن رأت مثلهما في القتامة، و كانت تلمعان في استشارة من وراء ظلال رموش قاتمة مجعدة، و كان حاجباه و شعره بلون أسود أشبه بجناح غراب لامع و قد صبغت الشمس بشرته بلون بني يشبه خشب الساج. و لم يبد في ساقيه البارزتين من سرواله القصير أي اختلاف عن لون ذراعيه. كان طويل القامة و جسمه ممشوقاً يعكس انطباعاً عن قوة في ذراعيه دون بروز في العضلات،فيما كتفاه وسيمان عريضان. و لم يكن هناك أثر للترهل في مظهره و كان فخذاه مستقيمان، و عندما ابتسم كشف ثغره عن أسنان بيضاء كاللؤلؤة. و لاحظت جولي الخطوط الغائرة التي برزت على جانبي فمه. و قال:"أعد بأنني لن أضايقك" و احمرت وجنتاها و قالت و هي تعرف أنها تكذب:"لم يخطر لي أنك تضايقني" "كان ينبغي أن يخطر لك، فقد أحسست فعلاً برغبة في ذلك" و ضاقت عيناه في خبث و هما تتفحصانها و هي في وضع الركوع. كانت جولي تتمنى أن تستنشق نفساً عميقاً و لكنها كانت تخشى أن يبدو عليها القلق الذي كان يساورها.و حاولت أن تسترجع ثقتها بنفسها و وجدت الشجاعة من جديد فقالت:"لا أريد أن أقطع عليك خلوتك" "على العكس" قال الرجل ذلك و مشى عائداً إلى مكانه أسفل الشجرة في وضع الاسترخاء الذي كان عليه، و استمر يقول:"إن جلوسك لتناول الطعام لن يؤثر على جلوسي لصيد السمك و يمكنك أن تبقي في المكان ذاته" و امتد بصرها إلى الصنارة و الخيط المستندين إلى عصا قرب حافة الشاطئ و وجدت نفسها تقول في صراحتها المعتادة:"و لكن هذا الوقت من النهار ليس مناسباً للصيد، فالجو حار" و علق قائلاً:"يبدو أن لك خبرة في الصيد" و أجابت جولي و هي تبطئ من عزمها على الرحيل السريع:"بعض الخبرة" و ابتسم في مواجهتها من جديد و قال:"إن لي نظرية حول الصيد في هذا الوقت من النهارأتحبين أن تعرفينها؟" و قعدت على السجادة الغيرة و قالت:"و ما هي؟" "أعتقد أن الأسماك الكبيرة الذكية تعرف أن الصيادين لا يخرجون إلى الصيد إلا في أوقات خاصة تتجنبها هذه الأسماك. أما في هذا الوقت الحار فإنها تبحث عن الطعام في مأمن من شباكهم" منتديات ليلاس "و هل تحققت نظريتك؟" "كلا، و مع ذلك فهي فرصة لتدريب الديدان التي أستخدمها كطعم" و قهقهت ساخرة، و لكن سرعان ما سكتت عندما انحنت قصبة الصيد انحناءة مضاعفة. و وقفت جولي ترقبه و هو يشد القصبة و قد استولى عليها شك حبس أنفاسها. و شد الخيط بقوة و جعله يستقر على الشاطئ. و أحس بشئ على نهاية الخيط فاتجه إليه و انحنى ليلتقطه بينما زحفت لتلقي نظرة عن كثب و صاحت:"يا لها من سمكة كبيرة!" "إننا نسميها جراد البحر" و أخذ يقلم زعانفها ثم وضعها في دلو صغير "هذه جرادة البحر؟" قالت جولي هذا و هي تحدق في السمكة و كانت الدهشة تبدو في صوتها لحجم السمكة الكبيرة الشهيرة جراد البحر. و سألها:"هل سمعت قصة الكاجون و هجرتهم من كندا إلى هنا؟" و نظرت إليه في دهشة و هي تتعجب من صلة ذلك بسمكة جراد البحر و قالت:"نعم" "و هل سمعت بأسطورة جراد البحر؟" و أجابت جولي:"لا" "عندما اضطر الأكاديون أو الكاجون إلى ترك كندا كان صديقهم المخلص جراد البحر يعيش في المياه المتجددة حول نوفا سكوتيا. و كره أن يراهم يهاجرون و لم يكن له مكان على ظهر السفن التي حملتهم بعيداً. و كان عليه أن يسير في أثرهم، و استمر يسبح المسافة كلها هابطاً بمحاذاة ساحل الاطلنطي إلى خليج مكسيكو حتى وصل أخيراً إلى رافد لويزيانا حيث أقام الأكاديون وطنهم الجديد. و كان للرحلة أثرها فقد أنقص التعب جراد البحر إلى ربع حجمها السابق.." و هنا كانت عيناه الزرقاوان القاتمتان تنظران إليها و قد تقوس أحد حاجبيه و كأنه يريد أن يتحقق مما إذا كانت تصدق أم لا. و أضاف:"هكذا تحكي أسطورة جراد البحر" "حسناً، سواء كانت هذه الأسطورة حقيقية أم مجرد هراء عاطفي فإنني أحبها" و تنهدت و قد بدا في صوتها شئ من الرضا، و عاد يسألها من جديد و قد بدا الخبث في عينيه:"هل نجحت القصة التي نحكيها لأطفالنا في أن تزيل قلقك بالجد الذي يقنعك أن تواصلي قضاء نزهتك الانفرادية هنا؟" "نعم" و بدا في صوتها شئ من الاضطراب عندما أسرت عيناه عيناها، و لكن جولي استطاعت أن تتحرر من تحديق عينيه و قالت:"إن لدي من الطعام الشئ الكثير، هل تحب أن تشاركني؟" و علق قائلاً:"كنت أظن أنك لن تفكري أبداً في أن توجهي إلي هذه الدعوة" "لم أكن أريد أن أكون أن أشتت انتباهك و أنت تحاول أن تثبت صحة نظريتك، و كنت أكره أن أكون سبباً في ضياع السمكة الكبيرة منك" قالت ذلك مقهقهة و هي تعود إلى حيث كانت تستقر سلة طعامها، و تابعت:"بالطبع. لو أن السمك الكبير على ذلك القدر من الذكاء كما تظن فمن المحتمل أنه سمع نظريتك و بدأ يحتاط ضد حيلتك" كانت قد أحبت صوته المرح أثناء الضحك و هو ينضم إليها في تناول الطعام، و مع ذلك كانت هناك أشياء عديدة حول ذلك الشخص الغريب الذي أعجبها إلى جانب نظراته الوسيمة المؤثرة. و رغم ذلك فإن أسلوبه الذي ينم عن الثقة الزائدة بالنفس و الذي بدا في قدرته على اعادة الطمأنينة إلى نفسها، جعل جولي تعتقد أنها أمام شخص يتفوق عليها في الخبرة. و لم يكن بوسعها أن تسمح لسحره الاحتيالي أن يتسرب إلى عقلها، و مع ذلك لم تستطع إلا أن تستجيب بابتسامة مماثلة عندما جلس على السجادة الصغيرة إلى جانبها، و وضعت رقائق البطاطس بينهما قبل أن تمد يدها لتخرج بقية الطعام. كانت هناك شريحتان من اللحم البقري المشوي قدمت إليه احداهما و احتفظت لنفسها بالأخرى، و قالت:"يمكنك أن تختر من التفاح أو البرتقال، أو من كليهما. و يوجد من كل زوجين اثنان هنا" "هذا كثير. شكراً!" و سادهما صمت و همخا يتناولان الطعام. منحهما الفرصة للاستمتاع بمذاقه الشهي. و وجدت جولي نفسها تضطر للاعتراف بأنها تستمتع بالوجبة، و أحست لأول مرة بحريتها في أن تكون على سجيتها و ألا تقيم وزناً لمشاعر أي شخص آخر مثل والديها أو جون. و مدت يدها إلى الترمس تتناول كوباً من عصير الليمون. و أدركت أنه لا يوجد غير كوب واحد و ملأت الكوب و قدمته إليه، كما اقتسما الطعام. و عندما أعاد الكوب إليها بعدما شرب نصيبه، سألته جولي:"هل أنت أكادي؟" "أنا أومن بفلسفتهم فقط" "ما هي فلسفتهم؟" "الأفضل أن تعيش حياتك لا أن تكتفي بأنك كائن حي. و الأفضل أن تغني لا أن تسب و تلعن. و الأفضل أن تعيش للحب لا للحرب. و في بساطة أكثر فإن الأكادي يحب القهوة الثقيلة و الضحك و الحديث و الغناء و الرقص و الأطعمة الدسمة و أكثر من ذلك كله يحب النساء" "و لكنك لم تحدثني عن النساء الأكاديات هل يحببن هذه الأشياء أيضاً؟" "انهن يضفن إلى القائمة الأطفال و الثرثرة و أزواجهن" و اعترضت قائلة:"إن ذلك ليس عدلاً. لقد قلت أن الرجال الأكاديين يحبون النساء، و الآن تقول أن النساء الأكاديات يقتصرن على حب أزواجهن" "عليك أن تأخذي في اعتبارك أن الأكاديين لديهم اهتمامات ترجع إلى أصلهم الفرنسي تجعلهم يقدرون جمال كل امرأة بصرف النظر عما إذا كانوا متزوجين أم لا" كان بامكان جولي أن تستنتج أنه يتعمد أن يبدو كما لو كان مثيراً للغضب و مع ذلك أحست بأن كلامها مثير و لو بدرجة طفيفة. و قالت في لهجة تنم عن الاحتقار:"هه. ليظهروا بمظهر العاشقين العظام؟" و أخذ البرتقالة التي كانت بيدها و راح ينزع قشرتها قائلاً:"إن الرجال الفرنسيين يعرفون أن النساء يزددن زهواً بالمديح و الاطراء، و قد يقول الرجل"إن شعرك كثيف لامع" و هو يحلم بأصابعه تمتد بين تجاعيده الناعمة"و إن النمش على بشرتك يجعلك تبدين في شباب دائم تتذكرين أيام الصيف المشمسة"! و تلك الأعين البنية الناعمة تذكره بأنثى الظبي التي تخش أن تدخل مرجاً غريباً" كان عيناه الزرقاوان تمعنان النظر في كل ملمح من الملامح التي يذكرها. و تابع:"و شفتاك المقوستان في استدارة جميلة رقيقة تعدان بعذوبة ما بعدها عذوبة" كانت عيناه تحدقان فيها بشكل آسر لا يسمح لها بأن تتحول عنه. كانت البرتقالة التي نزعت قشرتها بين يديه فقطع منها شريحة و وضعها بين شفتيها، فانفتح فمها يتقبلها بطريقة آلية و قد أحست بأنها أكلت الثمرة المحرمة. و أطلقت من حيث لا تدري ضحكة للتمويه حاولت معها أن تتخلص من عينيه المحدقتين. و شعرت بالرغبة في البكاء. "من حسن الحظ أن ذلك الشاب الفرنسي ليس موجوداً هنا. إذ كنت سأشعر بالذنب لو أنني رفضت الاطراء الذي يقدمه لي من باب المجاملة" "و هل بدا لك ذلك مجاملة؟" "دعني أقول لك أن العبارة المنمقة كان فيها شئ من المبالغة الشعرية. و لكن الاطراء من أجل الاغراء غالباً ما يكون كذلك" و ابتسم قائلاً:"إنك تتعمدين التقليل من قدر جمالك" "أوه! إنني لا أتواضع إلى الحد الذي أتجاهل معه أن لي جمالاً على طريقتي الخاصة. و لكنني لست هيلين الجميلة فتاة طراودة" "إن ما يرده الرجل من المرأة هو الحب و ليس الحرب. قد يذبل سحر المرأة إذا كان على الرجل أن يصارع منافسيه باستمرار ليثبت حبه" "هل هذا اطراء معكوس تقلل من شأن الجمال و ترفع من شأن البساطة؟" "لا، كنت أقول فقط أن الجمال الباطني أكثر سحراً من الجمال الظاهري" كانت جولي قد نهضت على قدميها، و بدأت تحمل اللفائف المختلفة على ذراعيها. و كان الرجل يمتدحها لكنه لم ينجح إلا في أن تحس بمزيد من الضيق لنقص جمالها. كانت من قبل على ثقة كبيرة دائماً، و قادرة على أن تحتفظ بثباتها أمام أي رجل. أما هذا الرجل فكانت له جاذبية خاصة و مؤثرة إلى درجة كبيرة. فقد كان يبدو وسيماً حتى خشيت أن تتورط في أي مداعبة معه. و رأت أنه من الأفضل أن تهرب قبل أن تتورط في شئ تخشى عقباه. "أرجو ألا تظن أنني أقتسم طعامي ثم أهرب و لكن من الأفضل أن أعود الآن" و ابتسمت دون أن تسمح للمرارة في فمها أن تؤثر على كلمات الوداع. "و لكن وقد ما بعد الظهيرة لا يزال ممتداً" كان هو الآخر قد نهض على قدميه، و بدأ يختلس النظر إليها بطريقة تستحثها على البقاء. "لكن أجازتي قصيرة" قالت ذلك و الأسف بدا في التنهيدة التي أطلقتها. و مد يده ليأخذ سلة الطعام من يدها فشعرت بالأسف عندما كف عن الالحاح عليها في البقاء، فيما كان قد وقف ينتظر منها أن تسلك الطريق إلى سيارتها. و عندما تم وضع كل شئ على مقعد السيارة الخلفي التفتت جولي، قائلة:"وداعاً" و امتد اصبعه إلى وجنتيها و قال:"عليك أن تطلي سيارتك بطريقة تنسجم مع النمش على وجهك. عندئذ يكون كلاكما أنثى طائر جميل تستعد للعودة إلى مأواها" "سيكون ذلك بدعة!" قالت ذلك و هي لا تجرؤ على النظر إلى عينيه. و جلست خلف عجلة القيادة، و قالت:"شكراً على قبولك مشاركتي إياك مكانك المختار للصيد" "شكراً على وجبة الظهيرة" "حسناً. إلى اللقاء" قالتها بالانكليزية، و بدت الكلمات مبهجة حتى على أذن جولي. "لا تقوليها بالانجليزية و لكن بالفرنسية.. حتى نلتقي ثانية!" كانت جولي قد أدارت محرك السيارة و انطلقت بها. و خطر لها أن الفرصة للقاء ثان أمر بعيد الاحتمال. إذ كيف يتسنى لهما أن يتقابلا من جديد؟ لم يكن يعرف اسمها أو مكن سكنها، كما هي لم تكن تعرف شيئاً – عنه. و كان ذلك الخاطر محزناً في حد ذاته.
5- رعشة في المعبد
كان غي ووالده يحضران اجتماعا يعقده احد الاندية المحلية, وكانت السيدة لوبلان تزور قريبة لها كبيرة في السن. وجلست ميشيل على الاريكة المغطاة بفراش ذي نقوش مربعة وحولها بعض الكراسات تقوم بتصحيحها بينما آلة التسجيل تملأ الحجرة بموسيقى مرحة. وجلست جولي تكمل رسالة كانت تكتبها الى خالتها بريجيت ولم تكن تستطيع ان تجعلها مبهجة مثل الرسائل السابقة . كان شبح الوجه القوي بشعره الاسود القاتم وعينيه الزرقاوين يطل عليها باستمرار وكانت تحس بالاحباط لأنها لن تراه ثانية . لقد سبق لها ان احتكت برجال على هذا القدر من الجاذبية وكانت تعج بنظراتهم حقا. ولم تكن تحس بالكآبة لافتقادهم ولكن الامر كان مختلفا مع هذا الرجل. لقد اعترفت لنفسها صراحة انه سحرها بما يعرفه عن لويزيانا وبما يتمتع به من مرح وفكهة. ولأنه لايحس بزهو او خيلاء. كان واثقا من نفسه ولم يكن متغطرسا يغيظ الآخرين او يسخر منهم. كان يعرف الكثير ولا يتباهى بما يعرف. وحاولت تكف عن التفكير فيه فلم تعد بعد طفلة ولم تكن من النوع الذي يستسلم للاحلام . واطلقت تنهيده عميقة سمعتها ميشيل فرفعت عينيها من وراء النظارة ذات الاطار المذهب وسألتها : - هل تكتبين الى فتاك ؟ - لو بقيت فيّ ذره من العقل لكتبت له , ولكنني اكتب لخالتي . - اجابتك توحي لي بشيئين: ان لك فتى وانك على خلاف معه . - انت على صواب في كلا الاستنتاجين . - هل تفتقدينه ؟ -لا . ولكن ضميري يؤنبني بين الحين والحين . قالت جولي ذلك في ابتسامة حزينة . - كان يحبك وانت لا تحبينه. وهذا يجعلك تشعرين بالقلق . قالت ميشيل ذلك وهي تربت على اوراق في حجرها مالبثت ان رتبتها في كومة منظمة ثم وضعتها مع باقي الكراسات على جانب من الاريكة . - ان لدى جون كل ما تحلم به الفتاة في أي شاب, فهو لطيف وحب ووسيم كنت اهتم به كثيرا ولكنني لم اشعر بالسعاده عندما كان يعانقني . وضحكت جولي من نفسها وتابعت : - انني لم اعثر بعد على فتى احلامي . - طموح زائد ! قالتها ميشيل وهي تومئ برأسها . - ماذا ؟ - طموح زائد ! شيء كثير . كانت الكلمتان تعبران عن حقيقة مشاعرها تماما, ومع ذلك لم تكونا تقدمان لجولي تفسيرا محددا لما تبحث عنه. وبدا ان انسب شيء ان تعمل بنصيحة خالتها فلا تشغل نفسها بالمشكلة. وتترك للوقت حل كل شيء . وقالت جولي : - لقد في فكرت في الذهاب الى اوبيلوساوس غدا لأزور متحف جيم باوي ثم ازور مدينة لافاييت . وتطرق الحديث في الذهاب الى ما يعجب السائح في كلتا المدينتين . وعندما استقرت جولي في فراشها تلك الليلة عز عليها النوم وحاولت ان تشغل نفسها بالتفكير في برنامج اليوم التالي, ولكن عقلها كان مشغولا بشبح ذلك الرجل الغريب. ونامت نوما متقطعا وهي تتقلب في فراشها . وخرجت جولي الى أوبيلوساوس ولافاييت لتستفيد طاقتها الجسمية والعقلية ونجحت في ذلك الى الحد الذي لم تستطع معه ان تتذكر اذا كان المنزل الذي على هيئة السفينة الغربية القةطية في اوستاوس أم في لافييت بينما كان في قرية اصغر حجما تسمى واشنطن. وفي الصباح التالي انتزعت نفسها من الفراش انتزاعا فقد نامت نوما عميقا واستيقظت كما لو كانت تحت وطأة عقار مخدر . كان فمها جافا وكان النوم مازال يلتصق بجفنيها الثقيلتين وهي تهبط الدرج. وجاء صوت السيدة لوبلان المرح يتردد في ابتهاج : - صباح الخير . والتفتت جولي بدهشة وعرفت مصدر الصوت عندما رأت السيدة لوبلان قرب باب المطبخ . وقالت السيدة لوبلان : - تجدين عصير البرتقال الطازج في الابريق والاكواب في الخزانة اليمنى فوق الحوض. ماذا تريدين للافطار ؟ - بعض الخبز والقهوة. وسألتها السيدة لوبلان وهي تضع الخبز امامها وتعود الى الخزانة لتحضر القهوة: - ما برنامجك اليوم ؟ واجابت جولي وهي ترتشف عصير البرتقال : - لا شيء. لقد فكرت في الذهاب الى المنتزه العام هنا في سانت مارتنفيل . - حسنا, لعلك تذكرين انني حدثتك عن واحد من اصدقائنا يمتلك مستعمرة قديمة . وحاولت جولي ان تتذكر اسمه وقالت : - اتيان . - نعم لقد اتصل بي هاتفيا بالامس وذكرت له اننك تقيمين معنا وتودين رؤية المناظر هنا, وهو يرحب بزيارتك لمستعمرته اليو م. - اليوم ؟ اليوم ؟. لم تكن تعرف ما اذا كانت في حالة تسمح لها حقيقة بتمضية بعض الوقت مع رجل فرنسي ثؤثاؤ كبير في السن . - لقد اقترح ان تكوني هناك حوالي الـ10 صباحا قبل ان تشتد وطأة الحر والحق انني لم اسئلة عن المكان الذي تبحثين عنه, ولكن من المحتمل انه يعرف شيئا . - كاميرون هول ؟ حسنا لقد حسم الامر. كانت كاميرون هول السبب وراء حضورها وكان من الخطأ ان تفوت اول فرصة اتيحت لها للحديث الى شخص ربما يعرف عنها شيئا مفيدا . - لقد اخبرته انني واثقة من انك ستذهبين. اليس كذلك ؟ وأومأت جولي موافقه وهي تقول : - أوه ... كم اتمنى ذلك . وابتسمت السيدة لوبلان وقالت : - ان المعبد مستعمرة اتيان يقع على مسافة اميال من المدينة وسأكتب لك التعليمات التي تساعدك في الوصول الى هناك . وعند الـ9.30 خرجت جولي قاصده مستعمرة اتيان ولم تكن قد استعادت سرورها وابتهاجها بالقدر الذي عرف عنها. ولم تتخلص من تلك الكآبة حتى بعدما اكتشفت ان تعليمات السيدة لوبلان فاتها الى الطريق الذي قابلت فيه الرجل الغريب. بل لقد غمرها الفرح بحماقة عندما قاتها تلك التعليمات الى منطقة اخرى من الريف فلم تكن راغبة في ان تعود الى المكان الذي يذكرها بالعينين الزرقاوين مرة اخرى . كان هناك طريق ترابي يتفرع عن يسارها يحمل لافته كتب عليها طريق خاص. ممنوع المرور. وتنهدت جولي فقد كان ذلك شغلها عن عنائها عندما اقتربت من المكان المقصود. كانت السيدة لوبلان قد اخبرتها ان المستعمرة ستكون على يسارها بعد مسيرة حوالي ريع ميل من المعطف في الطريق الترابي, وكان هناك سور متهدم يسير موازيا للطريق, وبدا السلك الشائك ينفصل في نقاط عديدة عن الاعمدة . ومع ذلك لم تكن هناك فرصة ليجرؤ أي انسان على التعدي بالدخول الى الملكية الخاصة من خلال السور مالم يكن لديه منجل, فقد كانت هناك كروم واشجار نخيل شائكة ذات سقف مروحي قصير . كان كل ما تستطيع جولي ان تراه من خلال الاشجار الكثيفة مجرد شبح لمبنى بوضوح من الطريق. وكان ذلك هو القصر المقام في المستعمرة ولكنه لم يكن يرى بوضوح من الطريق. وكان هناك عمودان ابيضان يحددان المدخل الذي كان مغلقا بواسطة بوابات حديدية صنعت من قبضان متقاطعه . وبدأت تحس بوضوح ان العز والابهة قد أدارا ظهرهما الى ذلك القصر. وفكرت في صاحب المستعمرة اتيان وتوقعت ان يكون شخصا شاذا غريب الاطوار . واوقفت سيارتها الفولكس واغن على جانب الطريق الضيق ونزلت واتجهت الى البوابة وراحت تنظر من خلال القبضان محاولة ان تجد اثرا للحياة كان المكان يبدو مهجورا واستطاعت ان تجد الجرس يتدلى الى جانب احد العمودين وجذبت الحبل الملتصق به وتردد صوت الجرس قاطعا الصمت, وكان من المتوقع ان يؤدي ذلك القرع غير المنسجم الى ايقاظ أي شخص نائم. وخطت خطوات لتقف اما البوابة . وسمعت حفيفا مفاجئا ينبئ عن شيء ينطلق دون ان يلاحظ, تبعه صوت دوامة هوائية تتجه اليها. وفجأة وجدت نفسها تحدق النظر في الانياب البيضاء المعبرة عن الغضب كشف عنها كلب مزمجر وضع رجليه الاماميتين على البوابة حتى اصبح على مستوى النظر معها. وقفز قلبها الى حالقها وتسمرت ساقاها وهي تحدق في كلب ألماني من كلاب الرعي. كان في سواده اشبه بليل بلا قمر ولا نجوم. لم تكن تلك هي التحية التي توقعتها ولم يكن ذلك هو الضيف الذي جاءت تزوره . وعاد اليها الاطمئنان عندما ادركت ان الكلب لا يستطيع ان يتخطى البوابة . ولم يكن في نيتها ان تنظر من يكون السيد اتيان, او كيف يبدو انه سيكون . وقررت العوده الى سانت مارتنفيل, وبينما كانت متجههة نحو سيارتها سمعت صوتا قويا يخاطب الكلب قائلا : - بلاك اركع على الارض . والتفتت جولي الى الوراء لترى على الفور فم الكلب المزمجر يطلق انه مرخة بينما جثى على ارجله الاربع واخذ يهز ذيله وقد ادار رأسه نحو الرجل الذي بدا يخرج من القصر. وحدقت جولي وهي تكاد لا تصدق عندما رات الرجل يربت على رأس الكلب قبل ان يواصل السير نحوها. لقد كان الرجل الغريب نفسه الذي قابلته عند الرافد . وبدت على ثغره ابتسامة عريضة زاد في وضوحها اللمعان الجرئ في عينيه الزرقاوين وهو يقول : - أرجو ان تصفحي عن بلاك وطريقته في الترحيب بك. انه لم يتعود على الغرباء حتى ولو كانوا من النساء الصغيرات الجميلات . - لقد جئت .. وتجمدت الكلمات في حلقها وهي تحاول ان تحدق فيه . وانتابتها الدهشة والحيرة وتابعت: - أ...أنت...أنت اتيان ؟ - في خدتك يا آنسة جولي ! كان يحني رأسه انحناءة كبيرة وبدا شعره القاتم يلمع في سواد يشبه سواد كلبه بلاك . - ولكن كيف ؟ اعني كيف عرفت ؟ كانت تتلعثم مثل تلميذ في المدرسة . - كنت متأكد الى حد ما , فقد تعرفت على يلة الطعام وعلى طريقة جوزفين في الطهو, وتأكدت من ذلك عن طريق مكالمة هاتفية معها . وفتح قفل البوابة وحرك ضلفة مصراع الباب ليسمح لها بالدخول , واحست باندفاع عندما ادركت ان اتيان كان يقتفي اثرها. ولم تستطع ان خطت نحو الداخل حتى توقفت لتطرح سؤالا خطر لها : - لماذا لم تخبر السيدة لوبلان بأننا تقابلنا في اليوم السابق ؟ كان قد اغلق البوابة وراءها ووقف قريبا منها لدرجة انهما كادا ان يلتصقان. وكاد اقترابه منها يجعلها تكف عن التنفس خاصة عندما بدأت تتفحص تعبرياته التي لا تعرف خاصة عندما بدات تعبيراته التي لاتعرف عمقها في عينيه الزرقاوين المنتهجتين . - ولماذا لم تفعلي انت ؟! - لم تكن لي الميزة ذاتها التي كانت لك. فلم اكن قادرة على استنتاج المكان الذي تقيم فيه . وظهر على وجنتيها حمرة خجل طفيفة استطاعت بعدها ان تخطو لتتجنب التصاقه الذي كان يسبب لها شيئا من التورت واضافت : - ثم كيف كان يمكن ان يكون وقع ذلك لو انني اخبرتها بما حدث لدى لقائنا بعد الظهر في ذلك اليوم ؟ وضحكت في تردد وواصلت : - كيف كان بامكاني ان اقول مثلا يا سيدة لوبلان. لقد تقاسمت طعام رحلتي مع رجل له شعر اسود, وعينان زرقاوان تفيضان بالحيوية, وعمره في الثلاثين, ولكنني لا اعرف اسمه ؟ وهز رأسه وابتسم قائلا : - ليس غريبا, ولكنك لا تقدرين على ذلك ولعل هذا هو السبب الذي منعني من ان اطلبك بالتليفون . - لا تطلبني ؟ لماذا ؟ كان الاضطراب قد بدا يظهر في خطوط متكسرة على جبهتها بينما امسك ذراعها وهما يسيران نحو القصر وقال : - فيما مضى كنت اتجنب العذارى المفعمات بالنشاط والحيوية لأنهن في العادة يجلبن التعقيد الى حياة الانسان وهي مسألة ضمير . - واذن, لماذا طلبتني ؟ - ربما دفعني باعث الى ذلك ! وتسمرت يده على ذراعيها لتحد من خطواتها وجعلها تقف بجانبه, وركزت جولي عينيها على حذائه اللامع وعلى بنطلونه الابيض العاجي , وبدا في كل حركة من حركاته انه صاحب المستعمرة المهيب. واستأنف الكلام : - ولكنني ياجولي سعيد لكوني استسلمت لذلك الباعث . ولم تستطع اخفاء احساسها بالسرور, كانت تريد ان تقول انها سعيدهكذلك , ولكن كبرياءها وعدم تأكدها من مشاعرها نحوها منعاها من ذلك . ولم تستطع في الوقت نفسه ان تنكر سعادتها لأن ذلك كان سيبدو كذبة واضحة. ولم يكن اتيان ذلك الرجل الذي يغيب عنه ذلك . ومن هنا فضلت الا تجيب على الاطلاق وسألها : - هل انت آسفه لمجيئك ؟ ولم تحاول ان تكذب. فقد كانت عيناه تلحظان بدقة كل سكنة من سكناتها فقالت : - لست اسفة . قالتها بصراحة وقد استجمعت كبرياءها لتواجه عينيه المتفحصتين وبدا على فمه طيف ابتسامة وقال : - انك عظيمة فالصراحة عادة ليست فضيلة تتسم بها النساء . وعلقت على الفور : - ولا الرجال . وضحك ضحكة خافته اقترنت بها ابتسامة عريضة واحست جولي بالدفء يغمر وجنتيها. واستأنفت السير على الفور وهي لا تخف احساسا واضحا بالرجل الذي يسير الى جوارها. وقال وهو يضحك : - ان لسانك لاذع. اعتقد اننا سنستمتع تماما بيومنا يا بلاك . كان يوجه كلمته التي قصد بها المضايقة الى كلب الرعي الالماني الذي يسير مسرورا الى جانبه, وكانت عينا جولي البنيتان اللامعتان تنظران في شيء من الغيظ الى طريقته الزائدة عن الحد في اظهار الثقة بالنفس . كانت الشجيرات الكثيفة قد بدأت تتضاءل دون ان تلحظ جولي ذلك. وبدأت خطواتها تتعثر ثم توقفت تماما. فقد كان امامها منظر لا يمكن ان تتغاضى عن رؤيته. كان هناك قصر صخم يرتفع في الفخامة. واحتبست انفاسها فالاعمدة الصخمة تحيط بالبناء المربع الشكل وتحمل شرفة في الطابق الثاني كذلك الافريز الثقيل الذي يزين السقف المسطح. وكان ارتفاعه يثير الرهبة وكان هناك ضلف خشبية ذات لون اخضر غامق تغطي النوافذ التي تمتد من الارض الى السقف في كل طابق. وتحمل واجهة المنزل التي تحولت الى لون اصفر باهت مع مرور الوقت . بينما تدل اجزاء متبقية من الطلاء على ان القضبان الخشبية في الشرفة العليا كانت في يوم ما مطلية بطلاء ابيض . وبرغم الشوائب التي اثرت على البناء الذي عمره قرن فقد بقي للمبنى بهاؤه وفخامته اللذان لم لكن يعرف السر وراءهما. وكان طرازه الاغريقي يضفي عليه رونقا ملكيا رفم تهدمه الجزئي. وكانت المستعمرة محاطه باشجار البلوط الضخمة واغصانها بحجم جذع الشجرة العادية, تتدلى الى الارض بدرجة تمكن الانسان من ان يجلس عليها كما لو كانت مقعدا . وكما هي العادة فقد كانت تلك الاغصان المورقة مكسوة بالطحالب الاسبانية ذات اللون الرمادي المائل الى الخضرة . وحولت جولي بصرها في النهاية الى اتيان الذي كان يبتسم في رقه وتعاطف وقد ادرك كم كان المنظر مثيرا . وقال : - ان المعبد يترك دائما الانطباع ذاته على أي وافد غريب . وعاودت النظر الى المستعمرة واطلقت انفاسها قائلة : - يا لسعادتك بامتلاكه . وابتسم في حزن وقال : - انها هي التي تملكني . كانت عيناه تلاحقان عينا جولي, بينما استقرت يده على ظهرها واستأنفا السير نحو القصر وواصل كلامه : -وانها لأعز لدي من أي سيدة عرفتها من قبل لقد شهدتها للمرة الاولى منذ 4 سنوات ولم تمضي سنة بعدئذ حتى كنت قد استسلمت واشتريتها . ونظرت جولي اليه في شيء من الدهشة وقالت : - كنت اظن ان المعبد كان مقر اقامة اسرتك . وانك قد ورثته عن اجدادك . - لو كان كذلك لما سمحت بان يصل الى الحال التي كان عليها عندما اشتريته. لقد كان يستعمل حضيرة للمواشي !! كانت هناك 5 درجات تؤدي الى الرواق الخشبي المسقوف والى الباب الضخم المزدوج المؤدي الى الداخل. ولاحظت جولي ان الاجزاء التي اكتست بالواح خشبية حلت محل الالواح البالية , بينما فتح إتيان احد الابواب ووقف ينتظر ان تتقدمه لتدخل البيت. وكان المكان معتما الى درجة كبيرة في البداية ثم اعتادت عيناها النظر في غياب اشعة الشمس الساطعة. وبدا اتيان يفسر لها سبب البرودة في الداخل : - ان سماكة الجدران تصل الى حوالي قدمين, ولذلك تظل درجة الحرارة منخفضة على مدار السنة . كانت الردهة الفسيحة تقسم المنزل قسمين, وكان هناك باب اخر مزدوج امام جولي. وعندما فتحته وجدت على جانبي الردهة 4 ابواب, وكانت هناك على الجانب الاخر3 ابواب وسلم حلزوني. وكان المكان خاليا من أي اثاث ما عدا منضدة . وامسك اتيان بمرفقها وسار بها الى الصالة وقال : - ان ارضية الطابق السفلي خربتها الماشية كليا, وقد استبدلتها بآخرى جديدة في الشتاء الماضي . وتبعته جولي وهو يسلك الطريق الى حجرة مخصصة لحفظ ادوات المائدة, وكذلك الى الحجرة الكبيرة التي تشبه حجرة المعيشة في يومنا هذا. ثم الى حجرة المائدة فحجرة المكتب حيث كان مالك المستعمرة يصرف اموره اليومية ويحتفظ بسجلاته, واخيرا الى حجرة صغيرة كانت تستخدم قاعة للجلوس . كانت كل الحجرات عارية من الاثاث وتحت الترميم. ولاحظت جولي الخطوط القاسية على وجهه وهو يشرح كيف ان اماكن المدفأة المحفورة في كل حجرة قد خربت عن عمد واصبحت غير قابلة للاصلاح, واوضح ان بدائل منها يجري اعدادها واحست بغصة لأن الصورة الاصلية لن تعود كما كانت... وابتسم وقال : - شكرا لله ان الماشية لا تحاول ان ترتقي السلم . وقادها الى الدرج وتابع : - هذا القصر له سلالم حلزونية بيضاوية فاخرة لا تستند الى دعائم خارجية والدرج مصنوع من الخشب السرو, اما الدرابزين المنقوشة فمن الماهوجني ولم تستخدم المسامير في تثبيته, فكل عمود ركب بفرده في الدرج وفي القبضان . كان الخشب لا يزال يحتفظ بلمعانه املس صقيلا, ولم تستطع جولي ان تمنع يدها من الانزلاق على سطحه وهما يتسلقان الدرج الى الطابق الثاني . وهنا وجدت ان المدافئ في حجرات النوم لم تمس رغم مظاهر الاهمال فيها . وكان اتيان قد قام بتنظيف احداها واعاد طلاءها وكان هناك من الاثاث يعاني من الغذارة التي تطمس جماله . واصطحبها مرة ثانية الى الردهة التي تقسم الطابق الثاني الى قسمين متساويين يقع عند طرف كل منها باب مزدوج يؤدي الى الرواق العلوي, وجعلها تجتاز احد هذين البابين, وكان المنظر الذي شهدته مثيرا وادركت انه يطل على الجانب المقابل لواجهة المبنى حيث المروج الخلفية . كان هناك شريط من المياه اللامعة يومض لعينيها من خلف اجمة من اشجار البلوط والنباتات جميلة الاوراق والزهور. والتفتت الى اتيان سائلة : - هل هناك بركة مائية ؟ - ذلك هو الرافد تيشة . لم يكن هناك طرق في الماضي وكانت المستعمرات تقام على حافة رافد او اخر للانتقال, تماما كما كانت المستعمرات الاولى تقام على ضفاف المسيسبي وبذلك كان يسهل عليهم نقل المحاصيل. فقد كانت المجاري المائية هي الطرق في الماضي الى لويزيانا . واومأت جولي اقتناعا وبدأت تنظر من جديد الى المروج الخضراء وخطرت لها فكرة مفاجئة : - انك لم ترني المطابخ اين هي ؟ - كان الناس يخشون النار كثيرا, ولذلك لم يقيموا المطابخ داخل المبنى الرئيسي. وابتسم اتيان لسؤالها الانثوي وتابع : - لقد وجت بعض الاساسات في الجانب الشمالي على مقربة من حجرة الطعام, واعتقد انها كانت مطابخ. - اين تعيش ؟ ولمعت عيناه لسؤالها بشكل اربكها, وتابعت : - ايعقل انك تعيش داخل هذا البيت, او على الاقل ليس الان . واخذها وقال : - تعالي سأريك اين اعيش . كان دفء يديه يبعث فيها شعورا بالرجفة .
6- النار الطيبة
عاد إتيان و معه جولي إلى الطابق الأرضي عبر الباب الذي دخلا منه، ثم استدار إلى اليسار بدلاً من أن يسلك الطريق المؤدي إلى سيارتها، و بينما كانا يدوران حول القصر اكتشفت جولي مبنى بدا و كأنه نسخة مصغرة عن المعبد. و صاحت في بهجة:"إنه نسخة مصغرة و مطابقة للقصر" "تعرف عادة باسم الغارسونييرة حيث كان يسكن عادة الشبان غير المتزوجين من الأسرة" و فتح الباب ثم وضع يده على كتفها مرة ثانية و اصطحبها إلى الداخل. كانت حجرة واحدة كبيرة تتصل بدرج يؤدي إلى الطابق الثاني و حاجز حديدي يعزل منطقة المطبخ. و كان الأثاث بسيطاً يناسب الرجل. و قادها ضغط يده عليها إلى داخل الحجرة. كانت أشبه بذبابة وقعت في شراك عنكبوت لا تستطيع الخلاص منه. و جاء صوت إتيان في إغرائه و تدليله الرقيق يقترب من أذنها، أو على الأقل تصورت ذلك إذ سمعته يقول:"هل أحضر لك شراباً منشطاً؟" و خطا نحو المطبخ. و راحت جولي تذرع الحجرة الصغيرة في تردد. و أحست بأنهما قد أصبحا في مكان منعزل مما سبب لها بعض القلق. و شعرت أنه ليس من اللائق أن تكون في منزل إتيان رغم أنها كانت تتجول في بيت جون تالبوت بحرية كاملة. و قدم إتيان إليها الكوب و قال:"عصير ليمون" و نظرت جولي بحذر إلى عينيه اللتين أخذتا تضيقان، و رأى يدها ترتجف و هي تتناول الكوب فيما كانت رموشه القاتمة المتجعدة تظلل زرقة عينيه. "هلا جلسنا في الخارج؟ ربما تكونين أكثر اطمئناناً هناك" قالها و هو يسخر منها، لكن جولي قبلت الاقتراح. و عندما جلسا على الكرسي فوق المرج الأخضر فقدت المحادثة بينهما حرارتها. و قنع إتيان بالنظر إلى البيت الذي يسيطر على المنطقة. و استغلت جولي الفرصة لتتفحصه عن قرب. لم يكن في نظرها الشخص نفسه الذي التقت به من قبل أو خيل إليها أنها التقت به. كات لا تزال هناك رشاقة الحركة و ذلك التناسق الغريزي الذي يميز الشخص الرياضي، و العينان الزرقاوان القاتمتان تلمعان بالبهجة، و الابتسامة تظهر الخطوط الغائرة قرب فمه. و مع ذلك بدا لها و قد مال إلى التراخي و الكسل كأنه شخص لا يأبه للحياة. و اليوم رأت جولي شيئاً آخر. رأت فكه يبرز في تصميم، و أنفه الدقيق يظهر في ارستقراطية تعبر عن الاشمئزاز، و العينين الزرقاوين تضطرمان بالغضب المتأجج، و الشدة القاهرة التي تنبعث و كأنها شذى حوله. و جذب انتباهها كذلك وقاره و تصميمه الحديدي الذي ينبئ بأنه يمكن أن يكون قاسياً متحجر القلب إذا شاء. و سألها و قد أشاح بوجهه بعيداً عنها:"أما زلت تترددين في أن تثقي بي؟" كانت صورته تنطبع على الأشجار القاتمة أمامها، و أيقن أنها كانت تتأمل ملامحه، قالت:"لو وضعت قرطاً ذهبياً في أذنك لبدا مظهرك كقرصان بارع" و بدت و هي تحاول إخفاء حمرة الاضطراب الظاهرة على وجهها. "أقبل ذلك على أنه مديح و اطراء" و بات يتفحصها. و حاولت جولي أن تتجنب نظراته الثاقبة. و واصل كلامه:"للأسف، إنني رجل فقير لا أمتلك سوى المستعمرة" و علقت في ما بدا أنها تغير الموضوع:"إن أغلى ما في الحياة متاح للجميع بالمجان" "أؤكد لك أنك، بطريقة أو بأخرى، تدفعين الثمن لكل شئ" قالها بشئ من الضحك و الأنفة و الاعتزاز. "و ما ثمن الحب؟" قالتها و قد أدهشتها نغالنغمة الساخرة في صوته. "إن أغلى ما يملكه الرجل.. هو حريته" و ضحكت جولي و هي لا تدري كيف تعلق على ملاحظته، و قالت:"هل أنت من أولئك الرجال الساخطين الذين يصممون على البقاء دون زواج؟" "و هل أنت واحدة من أولئك اللائي يعتقدن أن السعادة ينبغي أن تنتهي بالزواج؟" و رفعت ذقنها في شئ من التحدي، و أجابت:"نعم، ولا. يبدأ بالحب و تستمر بالزواج، و أنا أحب الشاعرية" "إنك تتحدثين في صدق. و ما هو الحب؟" و تنشقت نفساً عميقاً، ثم زفرت أنفاسها ببطء و هي تحدق بالشمس الساطعة تغرق البيت في وهج أصفر عميق:"لا أعرف، و لم يسبق أن جربت الحب. و ماذا عنك أنت؟" "مرات عديدة" كانت سطوة عينيه الساخرتين قد اتجهتا إليها، و أحست بالقوة الكامنة في رجولته، و تابع:"و هذا هو السبب في كوني لا أؤمن به" "إذا كانت حريك غالية لديك إلى هذا الحد، لماذا ربطت نفسك بهذه المستعمرة التي قلت أنها تأسرك أكثر ما تفعل أي امرأة؟" "إنك تنصتين إلى ما يقوله الرجل،و هذه ميزة أخرى نادرة" كانت عيناه تتفحصانها بنظرة بطيئة و هما تحدقان. و واصل كلامه:"أضناني السفر، و كنت لا أعرف شيئاً عن أجدادي. و هذا المكان كان يحمل اسمي" "لا أفهم" قالتها و هي ترفع رأسها متسائلة. و ضحك و قال:"سوف أطلعك" و وضع كوبه على الأرض في الرواق المكسوة بالآجر في الغارسونييرة، و فعلت جولي الشئ نفسه. و امتدت يده ليعاونها على هبوط درج الرواق الضيق. و أحست بضيق لأنه يرفع الكلفة معها في سهولة. و لم تستطع أن ترد بالطريقة ذاتها من عدم الاكتراث. كان إتيان يحيرها. كان لغزاً بالنسبة إليها و لم تستطع أن تمنع خاطراً طرأ لها عما جعله يعامل النساء بذلك الحذر. و عادت تفكر أنه ليس حذراً لكنه تحرر من الوهم. و كان طبيعياً أن الرجل له جاذبيته الكبيرة تجتمع النساء حوله كما يجتمع الذباب على عسل النحل و ربما نشأ احتقاره للنساء من كثرة ألفته بهن. أرادت حولي أن تقطع الصمت الذي ساد و هما يسيران فقالت:"إذا كنت أحسست بالحاجة إلى الاستقرار فهل فكرت في أن يكون لك أطفال؟" و ألقى عليها نظرة جعلت أحشاءها تضطرب. و استقرت عيناه على شفتيها فترة أطول قليلاً مما تحتمل، و فكرت كيف يكون الحال لو عانقها. و كانت تعتقد أن له خبرة كبيرة في المغازلة. و قال:"و لكن الأطفال ليسوا مجرد نتاج للزواج" و كان وراء ابتسامته شئ كثير من الخبث جعل جولي تدرك أنه كان يحاول أن يصدمها. و احتفظت بهدوء صوتها في الدرجة التي لا تصل إلى توبيخه أو السخرية. و قالت:"من الأفضل للطفل أن يولد في ظل الزواج" "إنك تتحدثين الصواب دائماً" و توقف إتيان و توقفت جولي. و كانت يده تضغط على ذرعها كأنها تصدر أمراً لتبقى حيث كانت، بينما سار هو إلى شجيرة مزهرة و قطع زهرة كبيرة بيضاء قربها من أنفه ليشم عطرها قبل أن يقدمها إليها. و عندما أطبقت أصابعها على يده لتتناول الغصن الصغير لم يفلت يدها على الفور بل أخذ يضغط عليها لتبقى و قال في صوت أجش:"إن الفضيلة ينبغي أن تنال المكافأة دائماً" و اختلست نظرة إلى رموشه من وراء نقاب رموشها و بدا أثر ابتسامة كان قد كبحها، و أخذ يتطلع إلى المنظر الممتد أمامها. و كانت ذراعه حول خصرها تدفعها إلى الاقتراب من المرآة العاكسة. كان هناك عمود عتيق تنتشر عليه بعض البقع أقيم وحيداً قرب الماء، و كان نظيره يرقد في كومة من أنقاض الحجارة و بقايا النقش وسط الأعشاب الطويلة. و في المكان كان المدخل الأمامي للمستعمرة، و كان يشبه البوابة التي دخلت منها جولي و لكنه قد تحول الآن إلى أطلال. و قادها إتيان إلى العمود القائم في هدوء و قال:"هذا ما جعلني أتخذ القرار النهائي بشراء المستعمرة" راحت جولي تشاركه التحديق في العمود حيث كانت هناك حروف باهتة محفورة بقيت رغم فعل الزمن. و كانت متآكلة لدرجة أن جولي استغرقت بعض الوقت لتقرأ الكلمة:"كاميرون" و نطقتها في نعومة تكاد لا تسمعها الأذن و هي تمعن النظر خشية أن لا تكون كذلك. و باتت تحدق في اتجاه القصر المنتصب بكل فخامة بين أشجار البلوط الضخمة قبل أن تستدير إلى إتيان و دموع الفرح تملأ عينيها:"لقد وجدته!" كان صوتها خاطفاً، حاداً و مفعماً بالعاطفة، و واصلت:"لقد وجدت كاميرون هول" منتديات ليلاس و امتدت يدها تتحسس يده و السعادة تغمرها، و قد حيرته بهجتها و نجحت في أن تجعل تلك البهجة تتدفق وقتاً سمح لها أن تعطيه فكرة عن التفاصيل. و تركت ذراعيها تلتفان حوله و هي تحدق في الاسم المحفور على العمود. و أسندت رأسها على صدره العريض تعبيراً عن سعادتها و تابعت:"لا أحد مما سألتهم سمع من قبل عن كاميرون هول. و كنت أخشى ألا أجدها على الإطلاق. و الآن أجد أنها بيتك!" لم يكن بوسع جولي مواجهة عينيه فقد أحست بشئ من الخجل لأنها استجابت بحرية كاملة، و سألها في رقة:"هل أشكرك أم أشكر أسلافك؟" و همست قائلة:"الاثنان" "ابقي معي لتناول وجبة الظهيرة سوياً" و ترددت ثم سمعته يقول:"جولي!"
--------------------------------------------------------------------------------
و أحست بأنه ينجذب إليها و قالت:"أود أن أبقى هنا" كانت نظراته إليها توحي بأنه ربما حاول أن يصل إلى غايته بطريقة أو بأخرى. و قال:"أما عن الطعام فإنه آخر ما أفكر فيه الآن" و سلكا الطريق الذي سلكاه من قبل عائدين إلى القصر. و خطر لجولي أن المنزل الكبير كان ينظر إليها بالرضى و الارتياح. و تنشقت نفساً عميقاً محاولة أن تستمتع بكل عطر و بكل صوت أحاطا بها في أسعد لحظات حياتها. فهي لم تكتشف كاميرون هول فقط و لكنها اكتشفت إتيان كذلك. و كان فمها يشرق بابتسامة ذهبية كضوء الشمس، و عندما دخلا المبنى الصغير الذي يمثل صورة طبق الأصل عن القصر و قال:"أمن الضروري حقاً أن نأكل الآن؟" و قالت في تلعثم:"ينبغي أن أقول نعم" و أطلت عيناه الزرقاوين و قد ضاقتا على وجهها الذي كان يحاول أن يتحفظ بثباته و قال:"إنك على صواب بالطبع!" و لمست يدها ذراعه محاولة إيقافه عندما هم بالابتعاد عنها. و نظر إلى القلق البادي على وجهها و قال لها في حدة:"لا تنظري إلي هكذا، ربما لا أكسب الجولة الأخرى مع ضميري. لقد كنت بالفعل سبباً في القضاء على راحتي النفسية" و أدركت جولي عندئذ أنه كان لا يريد أن يكتفي بالمقابلات الطاهرة و عرفت كذلك أنها ما لم تكن على استعداد لتتحمل النتائج فإن الأفضل أن تتركه يأخذ المبادرة. و لا بد أن شيئاً في ملامحها كان يعكس التردد الواضح في مبلغ ثقتها، فقد رفع إتيان ذقنها المطأطأة و ابتسم قائلاً:"نسيت أن أخبرك أن عليك أن تساعديني في إعداد وجبة الظهيرة" و أجابت في مرح:"إنني ماهرة جداً في ذلك. إذ حصلت على دبلوم في الاقتصاد المنزلي" "ينبغي إذن أن نستفيد من دراستك بطريقة عملية" و اتجه إتيان إلى الثلاجة و فتح بابها و قال:"ما الذي تستطيع خريجة الاقتصاد المنزلي أن تصنعه من بعض الخس و بقايا اللحم و بعض البيض المسلوق و بعض ثمرات الطماطم؟ نريد شيئاً لذيذ المذاق، فهذا كل ما لدينا من طعام" كانت تستطيع أن تضحك في بساطة الآن و قالت:"إذا استطعت أن تحضر شيئاً من الزيت و الخل و بعض البهارات أمكنني أن أعد طبق سلطة ممتازاً" و أجابها مشجعاً:"إنه الطبق المفضل لدي، و اتركي لي الباقي" و لم تجد جولي وقتاً لتعرف كيف استطاع إتيان أن يجهز كل شئ لأنها كانت مشغولة بعملها الروتيني. و كان مذاق واحد من المتبل كفيلاً بأن يثير الشهية. و استطاع هو أن يحول الحديث بحكمة إلى مشروعات لترميم المستعمرة. و كانت جولي تبدي اهتماماً واضحاً بالحديث، و مع ذلك كانت بين الحين و الآخر تختلس النظر إلى بريق شعره الأسود أو إلى التباين الحاد بين عينيه الزرقاوين و بين قامته و ملامحه الأخرى. و لم تستطع أن تتابع مشروعاته. كان مجرد النظر إلى وجهه الوسيم كافياً لأن يجعل جولي تترنح و هي تكاد لا تصدق أنه يمكن أن ينجذب إليها. قال:"و في الأيام الماطرة كنت أعتني بإكمال الخشب اللازم لأريكة على الطراز الفيكتوري و لكرسيين ينسجمان معها" و كان خلال ذلك يحتسي شراباً يصاحب الوجبة التي يتناولها، و واصل:"سوف يحتاج الأمر إلى طبقة أخرى فقط من الطلاء و تكتمل الأريكة. و تبقى فقط إعادة التنجيد و سوف يكلفني انجازه الكثير" و صاحت جولي:"التنجيد.. إنه هوايتي" و نظر إتيان إليها نظرة جعلتها تحمر خجلاً، فلم تكن تقصد وضعه في موقف يجعله يطلب المساعدة في هذا العمل. و قالت بسرعة:"إنني ماهرة حقاً في التنجيد و كنت أكسب نقوداً خلال فترة الدراسة من هذا العمل" "أنا لا أشك في قدرتك و لكنني أتذكر أنك قلت أنك هنا فقط في إجازة" و انتفخ صدرها بالبهجة إذ أدركت أنه لم يكن يركز على التنجيد قدر تركيزه على اعتزامها الرحيل. أي أنه يركز عليها هي فقالت:"كنت أخطط للإقامة ثلاثة أسابيع، أو إلى أن تنفذ نقودي" و لمع في عينيه ضوء خطير و هو يقول:"في وسعي أن أعوضك وقتك إذا كان بإمكانك البقاء فترة أطول" و ضحكت و يداها تعبثان في كأس الشراب و قالت:"ربما تندم على ذلك العرض" و تردد ثم قال:"ألا يكون مخجلاً أن تضطري إلى الرحيل بينما لم يمض على اكتشافك لكاميرون هول غير وقت قصير؟" و فكرت جولي في صمت ثم قالت:"و أنت؟ ماذا عنك؟" .. كانت تفكر لماذا اختار كلماته بهذه العناية و كان من الواضح أنه لا يريد أن يرتبط. و أدركت أنه لا يحق لها بناء عل ثقتها في مشاعرها نحوه، أن يعتقد العكس. كان يرى أنها جذابة و كانت على ثقة من ذلك و لكنه كان رجلاً. و كانت ترى أن الحب ليس عاطفة ضرورية عند الرجال عندما يصل الأمر إلى الارتباط أو على الأقل ليس بالقدر ذاته لدى المرأة. و كان قد أخبرها بالفعل أنه لا يؤمن بالحب. و بدأت يداها تضطربان و أسرعت تشغلها بتكديس الأطباق لتحملها إلى حوض الغسيل. كانت تدرك أن إتيان يلاحظها باهتمام و تركيز و لكنها لم تكن تعرف ماذا تقول. كان خارجاً عن نطاق خبرتها السابقة و حرصت على أن تلتزم بالحديث حول الموضوع الذي يبقي علاقتها في منتصف الطريق و قالت:"إنني سعيدة لأن كاميرون هول لم يتم ترميمها" و كانت تحرص على أن يظل صوتها رقيقاً و هي تحمل الأطباق إلى الحوض و تابعت:"لأن بقاءها على ما هي يحفظ لها الطابع الذي كانت عليه منذ زمن بعيد" و التفتت موجهة الحديث إلى إتيان لكنها وجدته واقفاً بجانبها مباشرة. كان يطل عليها بحيث شعرت أنها قزم لا قيمة له.و جاءت كلماته تثير في عينيها لمحات من الألم و هو يقول:"إنك إنسانة تحبين العائلة يا جولي، و أرجو أن تعرفي أن الزواج لم يكن في يوم جزءاً من مشروعاتي" "ما الذي تنتظره مني أن أرده؟" قالت ذلك و هي تحبس دموعاً كادت تقفز إلى مقلتيها.و أجابت في حدة قاطعة بينما كانت عيناه تسلطان نارهما الباردة على وجهها. "لا أريد للنفاق أن يطل برأسه القبيح" "و مع ذلك فمن حقي أن أعرف أنني لست طفلة" "لا. إنك امرأة كاملة، و قد اكتشفت ذلك" كانت فتنته الطاغية قد أسرتها تماماً و بدأت تتحرك في شئ من الزهو و هي تجمع بقية الأطباق. و لكن ذراعه امتدت لتسد الطريق أمامها و قال:"و بالرغم من تعقلي الذي يناديني أن أدعك تخرجين من هنا قبل أن أؤذيك فإن عقلي يلح علي بأن أجد الأسباب لبقائك" كان صوته عناقاً هامساً و أحست جولي بركبتيها تتهاويان، و أدركت أنها إذا تركت الخيار ليديها فستجدان أن طريقهما إلى عنقه. و أجبرت نفسها أن تستدير نحو الأطباق المتسخة في الحوض. و قال في صوت أجش:"هل تعرفين أن كلمة جولي تعني جميلة في الفرنسية؟" "و ماذا عن اسم إتيان؟" و عانقها قائلاً:"استيفن" فتأوهت جولي و ابتعدت عنه بحيث لم يستطع أن يمنع انطلاقها من المكان و أحست بطعنة مفاجئة في شئ من الخوف توجه إلى قلبها. و انتابها فزع كبير إذ تذكرت ميشيل و غي يتحدثان عن شخص يدعى استيفن. كان ينظر إليها بشئ من الحيرة و الحذر:"من المؤكد أن السيدة لوبلان أخبرتك من أنا. إن اسمي كاميرون، ستيف كاميرون" "لقد كانت تسميك إتيان" قالتها جولي في هدوء و تذكرت ما حدثتها عنه ميشيل ي تحذير إذ قالت لها:"إن النار تشتعل و إذا ما اقتربت من ستيف فستحترقين" و كانت أسرة لوبلان تعتبره محجوزاً لكلودين لوبلان. و اختتم الحديث قائلاً:"لقد كانت دائماً تسميني إتيان"
الفصل السابع **
أقوى من الريح و المطر
وبدأت بعض الاسرار تتكشف امام جولي ، فقد كان غي قد ألمح أن ستيف خصم هائل . ولم يكن ذلك إلا بعض الحقيقة عنه . وقد خبرت نفسها كيف انهار دفاعها أمام اول مداعباته . ولم يكن غريبا أن يكون وجود اسم كاميرون على العمود وراء شرائه المستعمرة . ونظرت جولي الى إتيا ن وقد أصبح الآن ستيف كاميرون وضحكت في اضطراب وقالت :" أشعر بغباء كبير ، فقد تحدث غي وميشيل عنك باسم ستيف بينما تحدثت السيدة لوبلان عن اتيان ولقد ظننت انني سأقابل رجلا يميل الى سن اكبر " . " أستطيع ان افهم كون غي يتحدث كيفما شاء ليشوه سمعتي لديك ، ولكن لماذا تفعل ميشيل ذلك؟ " " ليس لغي مآرب في . أما ميشيل فأنا التي سألتها عنك وقد وصفتك لي فقط ". وابتسم ابتسامة عريضة وقال : " لا تقولى أن ميشيل تعتبرني خطرا" وأجابت على الفور : " ليس عليها " ومالت عيناه الزرقاوان الى القتامة وتحدث في شيء من الأغواء : " هل أنا خطر عليك ؟ " كانت تدرك بالفعل أن ستيف كاميرون يعني خطرا بالنسبة اليها ، ولكنها لم يكن على استعداد للبوح با حساسها وقالت : " لا تكن سخيفا فأنا واثقة من انك لا يمكن أن تأذيني " و أخذت تجمع بقية الاطباق وتابعت :" هل أخبرتك السيدة لوبلان أن كلودين ستصل يوم السبت المقبل ؟ " " نعم . ذكرت ذلك " قال ذلك وهو يتناول الاطباق من يديها ليضعها في الحوض . وأضاف : " أتركيها و تعالى شاهدي الاثاث الذي كدت انتهي منه " و انضغطت شفتاها عندما حول مجرى الحديث عن حياته الشخصية و عن علاقاته بكلودين . وحدثت نفسها : " وقد تنقصني الخبرة ومع ذلك فلست فتاة رفيفة خجولة تنسحب بهذه السهولة . ثم رفعت رأسها في تحد وكان يري التصميم في عينيها وهو يصطحبها خارج الغارسونييره قائلة :" أظن ان هناك علاقة ما بينك و بين كلودين ؟ " كانت تظن انها قد فأجاته ولكنه اجاب ببساطة : " إن كلودين الفضل في وجودي هنا " " ماذا تعني ؟" " لقد تقابلنا في نيوأورليانز ودعتني الى زيارة و الديها فرافقتها الى منزلها وجاءت بي الى هنا لنقضي يوما و كانت ترسم لوحة للمستعمرة التي شتريتها فيما بعد " ولم تستطيع أن تساله ماكان قد اشترى المستعمرة بسبب كلودين . وطرحت عليه سؤالا آخر : " ماذا تعمل ؟ " " اعيش . أزرع قصب السكر ويدر علي دخلا أسدد به رهن العقار و أدخل بعض التحسينات على القصر . و هناك حديقة خضروات تتنتج طوال السنة ، ولدي بقرة مدرة للبن تعطينى عجلا صغيرا للذبح كل عام . وليست لدى رغبة في الثروة أو الجاه . هل تشعرين الإحباط ؟ " " كلا . ولكنك من النوع الذي يمكن أن ينجح في أي شىء " وتجنب التعليق في لباقة وفتح بابا كبيرا يؤدي الى مبنى فعل فيه الطقس فعله وهو : " الأثاث هنا " وحصر الحديث حول الاثاث وكانت أسئلته تدل على ان لديه معلومات لا بأس بها . ووجدت جولي أن في وسعها الأجابة بطريقة تدل على الفهم . وخرجا من المبني الصغير ، و أحست جولي بأن شعور الألفة بينهما قد أخذ يتضاءل . كان ستيف مهذبا وساحرا ومع ذلك بدا وكأنه لا يحتفظ بأية مشاعر شخصية تجاهها . و كانت تحس بالسعادة في صحبته . و خطر لها ان تمد ذراعها نحو لتنعم من جديد بما تقاسماه فيه من السعادة . كان القصر يرتفع في فخامة مطلا على الطبيعة بحيث يري ن أية بقعة يسيران فيها . وعندها توفقا بجوار غصن يتدلى من شجرة بلوط ضخمة نظرت اليه من جديد بينما أخذت أصابعها تعبث بباقة من الطحالب وتنهدت وسألت " أتظن انهم كانوا يعيشون حقا في ترف و اسراف كما سمعنا ؟ " و أجاب ستيف : " لم يكن حياتهم كلها نوما ولهوا وإلا لما استطاع مالك المستعمرة أن يحفظ بها للعام التالي . كانوا يديرون أعمالا كثيرة في مستعمراتهم لكي يحصلوا على عائد مريح ، ولو فشل المحصول عامين متوالين لفقد الواحد ، واذا نجح لفصول عدة متوالية فأنه يصبح امبراطورا صغيرا ." " ملك السكر " و ابتسمت ابتسامة اظهرت بعض الخطوط الغائرة على جهها :" كان ملاك المستعمرات قليلين ، ولم يزد عدد من كان يمتلك الرقيق عن ثلث السكان في لويزيانا ذلك الوقت . ولكن الأبمة و الفخامة تشدان الاتنباه أكثر من صراعات الفقراء التي لا طائل وراءها " " انك تجعلني احس بالذنب لأنني أعبر عن اعجابي بحياة ملاك المستعمرات " وقال مبتسما " مازلت شابة وليس هناك شيء أكثر شاعرية من أن تتخيل الانسان أيام المستعمرات الذهبية ، فالذين أقاموا اكانوا اشخاصا صارمين بنوا امبراطورتاتهم و نحنوها من القفار البرية في المناطق شبه الاستوائية و استعمتعوا بثمار كدحهم ، وكان استخدام الرقيق بشكل أو بأخر شائعا في العالم أجمع في ذلك العصر ." " نعم كان الناس في انكلترا يعانون من العمل في مناجم ومن تشغيل الصبيه الصغار ، وكانت روسيا القيصرية تعاني من رقيق الأرض وكان النبلاء في بلدان أخرى يمارسون صورا أخرى من الاستغلال " " لقد ابتعدنا عن سؤالك حول ما اذا ملاك المستعمرات كانوا يصنعون حقا مقابض الأبواب في بيوتهم من الفضة و الذهب ويلقون بالدولارات الفضية على الزيد خلف القارب النهري ؟ " وأومات جولي وقالت : " أستطيع أن اتخيل مدى صدق ذلك !" " و يمكنك أن تثقي من ان القصص حقيقة مهما بدا فيها من المبالغة . لقد كانوا مثلا عندما يصل ضيف الى البيت يوفقون الساعات طيلة وجوده بينهم ابتهاجا بالمناسبة . وكان التفوق على الآخرين ليس من مظاهر الثراء و الغنى داخل البيوت فقط ولكن في مظاهر الكرم لعبة يحرص عليها ملاك المستعمرات ، فعندما كان أحد العبيد يقدم مائدة الافطار لضيفه من النساء في الصباح كان يضع وردة متفتحة على الوسادة و اذا لم تستيقظ كن يضعها تحت انفها حتى تصحو وعندئذ يقدم لها فنجانا من القهوة لينشتطها فتظن الضيفة أن الوردة قد أعادت الى روحها نشاطا ." " يا لها من فكرة جميلة " " وهناك واحدة من أطرف القصص عن تبذير ملاك المستعمرات وقعت قريبا من هنا . أتحبين ان تسمعيهاا ؟ " وأوأمات أنها تتحمس لذلك فأضاف : " كان المسيو تشارلز دوراند يمتلك مستعمرة تطل على نهر تشيه على بعد أميال قليلة من سانت مارتنفيل ، و كان نابضا بالحيوية رزق من زوجته الاوليه قبل ان يموت اثني عشر طفلا و اقسم فوق مقبرتها على انه لن يتزوج ثانية . ولكنه تزوج بالفعل قبل أن ينقضي العام و أراد أن يعدل مع امراته الثانيه فرزق منها اثني عشر طفلا كذلك . وكان دوراند رجلا عادي . وعندما قبلت اثتنان من بناته الزواج من شابين من الاسرة المحلية في لويزيانا توقع السكان المحليون ان يروا مظاهر البذخ في حفل الزفاف المذدوج ، فارسل عبيده الى الغابات القريبه ليصطادوا عناكب كبيرة .و أطلق هذه العناكب قبل الزفاف بأيام قليلة في طريق يؤدي الى قصر تحف به الاشجار من جانبيه . وسرعان ما تحولت الاشجار الى شبكة من النسيج المثقب . وفي الصباح يوم الزفاف خرج العبيد ومعهم منافخ كبيرة ومسحوق من الذهب و الفضة وراحو ينثرون فوق نسيج العنكبوت ، وبذلك تحول الطريق الى مظلة ذات غطاء متلألئ فوق رؤوس المحتفلين بالزواج ." " وهل هذا معقول ؟ " قالتها وهي تضحك في شيء من عدم التصديق . وأضافت : " ولكن ماذا كان يحدث لو أمطرت الدنيا وعصفت الرياح ؟ " " لا تجرؤ المطرو لا الرياح على ذلك في يوم يتخذ فيه المسيو دوراند الترتيبات الخاصة بالزواج ابنته ." قال ذلك ثم سألها في رقة : " هل تعلمين أن الساعة قد تجاوزت الثالثة بل قاربت الرابعة ؟ " و التفتت نحوه في دهشة فيما احست بشيء من الحرج و الارتباك . لم يكن تتخيل أن الوقت قد مضيء بمثل تلك السرعة وتعثرت وهي تبحث عن الكلمات : " منالأفضل ... أن .. أن اذ...أذهب " وراحت تنفض الجونلة بشيء من العصبيه وهى تحاول ان تسلك طريقها الى السيارة لكنه امسك بمعصمها وقهقه ضاحكا وهو يجذبها اليه :" لا يضايقني أن تبقي معى طوال الليل ، لكنني لااود أن تضيعي جوزفين في القائمة السوداء ." وزاد ارتباركها عن ذي قبل وقالت : " أعرف أنها تنتظر عودتي لتناول العشاء معا " و أكلمت : " أنني مسرورة كونك ذكرتني بمرور الوقت " " حقا؟ " وشبك اصابعه في اصابعها وهو يقول : " دعيني ارافقك الى السيارة " وعندما اطمأن ستيف كاميرون بعد ذلك بدقائق الى أنها قد جلست في سلام خلف عجلة القيادة في الفولكس و اغن الحمراء انحنى نحوها وعانقها قائلا : " لك ان تصدقيني هذه المرة اذا ما قلت لك : " الى اللقاء يا جولي ! " ونطق كلمتي الى اللقاء بالفرنسية ... " رجع ستيف الى البوابة حيث كأن كلب الرعي الألماني جالسا وقد ارتفعت أذناه بنيما كانا عيناه تراقبان ما يحدث .و رفعت جولي يدها محيية ورجعت بالسيارة الى الوراء في المدخل الترابي . وعندما أخذت وجهتها على الطريق الرئيسى ادركت أن ستيف لم يذكر شيئا عن اللقاء التالي بيتهما . لكن الدفء كان يحيط قلبها كان يعكس قوله أنه لابد ستراها ثانيه . وعندما دخلت منزل لوبلان بدأت تحس بصدى مقابلتها مع ستيف كاميرون المعروف باسم إتيان . وبدات السيدة لوبلان باستفسارها عن مدى استمتاعها بفترة ما بعد الظهيرة مع إتيان . أما غي فوقف في المداخل يراقب في اكتئاب ردود فعل جولي على تلك الزيارة . وحاولت أن تخفف من ابتهاجها وهي تقول ان المعبد هو كاميرون هول الذي يبحث عنه . وظنت السيدة لوبلان ان تأخرها هناك كان لذلك السبب وانتهزت اول فرصة لتصعد الى حجرتها فتستعيد نشاطها . وتبعها غي الى الدرج وهو يقول :" ولكن لم تذكري شيئا عن انطباعاتك عن الفارس ستيف كاميرون ؟ " وازدادت قبضتها على مسند الدرج قبل أن تأخذ انفاسها وقالت : " كان بوسعك ان تحدثني عن وسامته الجذابة . ثم ان ستيف وأتيان شخص واحد . كنت أظن أنني سألتقي برجل فرنسي كبير في السن " " وهل حدث لك ذلك ؟ " " هل أسرتك وسامته ؟ " وأجابت في غموض :" لقد صدمت . ولم ادرك في أول الأمر أنه ستيف الذي حدثتني عنه ، بل لم أكن أعرف أن ستيف في الفرنسية تعني إتيان ." كان غي ينظر اليها بطريقة تثير فيها بعض الارتباك . فقد بدا وكأنه يري أثار العناق في أحاسيسها ، وأضاف يسألها وهي تتجه الى أعلى الدرج :" هل كنت على صواب فيما حدثتك عنه ؟" وأحست بشيء من الضيق لسؤاله المتطفل واستدارت لتواجهه : " ماذا تريد يا غي ؟ اتريد أن تكتشف ما اذا كان حاول اغوائي ؟ " وهمهم غي وهو يضرب الحاجز الخشبي بقبضته :" لم أشك لحظة أن رجلا آخر يستطيع أن يفعل بك ذلك " و تنهدت في غضب وقالت :" أوه .... هكذا يا غي هل تصدق حقا ماقلته الآن ؟ "
--------------------------------------------------------------------------------
" كلا ، فان ستيف من الذكاء بحيث لا يجازف في الكشف عن نيته في المرة الأملى . ولكنني على ثقة من أنه لابد ان يكون قد اسر بجمالك " " لقد نشات في مزرعة واعرف قدرا لابأس به عن الطيور الوديعة وعن النمل الذي يلسع . وبعد ثلاث سنوات قضيتها في الكلية أستطيع أن أتصرف في موقف او آخر دون أن يؤثر في عناق عابر " كانت تلك الاكذوبة صريحه ولكن جولي كانت في حالة من الغضب جعلتها لا تكترث . و ابتسم ابتسامة تعكس السخرية و الاعتداد بالنفس قائلا :" اذا فقد كنت على صواب ... بدأ الحصار بالفعل " " ولكن خطوطي الدفاعية لم تتكسر ولن تنكسر " وخرج صوته فيما يشبه الرجاء وهو يقول : " اسمعي يا جولي ، إنني أحاول فقط أن أحذرك حتي لا يلحق بك الضرر ، لقد رايت ستيف يغوى الفتيات من قبل . إنه يلجأ الى المغازلة بعينيه الواسعتين الزرقاوين . ويبتسم حتى تنهار الفتاة امام نظراته " ولم يفوت جولي فرصة السخرية منه وقالت :" كنت أظن أن من يفعل ذلك هو انت " و تنشفت أنفاسها بعمق وقالت :" أفهم ما تحاول ان توضحه ولكنني راشدة و أستطيع ان أكون وجهة نظري و أصدر أحكامي . وكل ما خرجت به أن ستيف شخص جذاب " ولم تعطي لغي فرصة لرد والتفتت وصعدت الدرج في سرعة ، ولكنه كان مصرا على ان تكون كلمته الاخيره :" و كذلك ثعبان الكوبرا !" لم يبذل ستيف أية محاولة للأتصال بها يوم الجمعة التالي و احست بشيء من الاحتقار لنفسها و هي تتسكع في سانت مارتنفيل ذلك اليوم ثم تعود الى بيت لوبلان بين وقت و اخر على امل ان يكون ستيف قد أتصل بها رغم أنها لم تسال صراحة اذا كان قد ترك لها رسالة أم لا . ولم تكن واثقة من مدى اعجابه بها الى الدرجه التي يفعل ذلك . كان كل ما تحرص عليه هو أن تهيء نفسها لتلبي الدعوة . و اشرق صباح السبت و كان كل أمل لديها بان يتصل بها اختفي مع ظلمة الليل السابق . كانت تحاول أن تقنع نفسها أن ما ذكره غي عنه كان غير حقيقي . ورغم ذلك بقي هذا الخاطر يلح عليها في صورة شكوك تؤدي بأوهام السعادة التي تحلم بها . وعندما اقترح غي أن يمضيا اليوم معا قبلت جولي اقتراحه في بهجة . ولحسن حظها كان هناك جمع من أصدقاء غي ولم تكون هناك فرصة ليطرح من جديد أسئلة حول زيارتها لستيف . كان البرنامج يتضم الجولات عدة في التنس يتبعها قضاء فترة مابعد الظهيرة الى جوار حوض السباحة . وكان للمجهود الجسدي وللأسترخاء الذي يتبعه تحت اشعة الشمس الدافئة اثر الكبير في إزالة التوتر عن جولي . وعندما عادت الى منزل الاسرة لوبلان في وقت متاخر من ذلك المساء كانت تحس بالأنتعاش الكامل . لم تحاول تغير رداء البحر البكيني بزهوره الحمراء ، و أقنعت نفسها ان البلوزه الحمراء ذات الاكمام الطويلة كانت تكفي لتغطية الأجزاء التي يكشف عنها رداء البحر . كانت الأسرة كلها يبدو في حالة من المرح وكان من الطبيعي أن تشارك جولي في ذلك . و أسرعت ميشيل الى الطابق العلوي لتأخذ حماما وتستعد للقاء بأوجين . وتلقي السيد لوبلان مكالمة هاتفية فيما انشغلت السيدة لوبلان بأعداد العشاء وذهب غي يبحث عن أحدى الصحف ليطلع على البرامج الاستعراضية التي كانت تعرض في لافاييت لعله يختار هو وجولي الرنامج الذي يريدان مشاهدته تلك الأمسية . وبقيت جولي وحدها في الحجرة التي كانت تعج نذ دقائق بأصوات المبهجة . وكانت جولي الوحيدة التي رات سيارة تصعد الى ممر لسيارات ثم تتوقف قرب الباب الخلفي ، وشدها حب الاستطلاع التافه الى النافذه لترى من القادم الجديد ، ورات فتاة في بنطلون أبيض ضيق بلوزة حمراء تكشف عن جزء كبير من صدرها . تخرج من مقعد السائق مسرعة وعلى راسها عصابة صفراء منقوشة تضم الكتل الطويلة من الشعر الأسود بعيدا عن وجهها لتجعله يتهدل كالشلال على ظهرها . وتحركت الفتاة برشاقة ماكرة تجاه مؤخرة السيارة وشفتاها الحمراوان تتحركان في سعادة غامرة ولم يكن صوتها مسموعا . وشحي وجه جولي عندما خرج من جانب المقابل من السيارة ستيف وسار الآخر باتجاه مؤخرة السيارة . وثارت الذكريات . كانت كلودين آتية الى البيت وهى التي تعتبر ستيف كاميرون ملكا خاصا لها . وكان ستيف معها يخرج الحقائب و الأمتعة من مؤخرة السيارة ووقفت جولي تراقب تبادل الابتسامات وهى تحس بالخيانة بينما كلودين تنظم الحقائب و الأمتعة . وبدا ستيف وكأنه صبي المكلف بحمل الامتعة في الفندق ينقل بعضها في يديه وبعضها تحت ذراعيه . وكانت جولي على آستعداد لترك النافذه على عجل وجففت عينيها بمؤخرة راحة يديها وقررت الأتتيح الفرصة له ليراها وهي تبكي . وحمدت الله أنه أتاح لها الفرصة لرؤية ذلك المشهد ، فلم يعد هناك أدني شك في آمالها كانت بلهاء . واسرعت الى الردهة حتى لا تكون الشخص الوحيد في الحجرة عندما تدخل كلودين و معها ستيف . ووجدت غي في غرفة الطعام منحنيا على الصحيفة . وتظاهرت بشيء مناقض تماما لما كان يعتمل في داخلها . وسألته : " هل وجدت شيئأ مثيرا ؟" " تعالى وانظرى ، لعل شيئا يثير اهتمامك ." كانت جولي تتفحص الصحيفة في اهتمام عندما سمع صوت ضحك و ابواب تفتح معلنة وصول كلودين وستيف ، وتنهد غي ونظر الى جولي في استسلام قائلا :" عادت ملكة النحل الى الخلية " و أخذ يد جولي على مضض كبير ليتجه بها الى الردهة . ورغم أن غي لم يبد حماسة واضحة فأن حماسة والديه كانت وافرة وهما يرحبان بعودة ابنتهما . ووقف غي و جولي الى الخلف ينظران حتي تنتهي دهشة اللقاء . و أحسست جولي بارتياح لانها كسبت بضع دقائق قبل ان تقف امام ستيف وجها لوجه . وكان غي قد أحكم قبضة يده على يدها وجذبها لتلتصق به فى اللحظة التي لمح فيها ستيف . واحست جولى بارتياح كبير لذلك . كانت جولي على ثقة كبيرة من انهما لم يحدثا ما يثير الاهتمام . ومع ذلك التفت ستيف وراءه و كأنه استفاد من حاسة السادسة لديه . وبدا وجهه بلا انفعال رغم أنه كان يخفي بعض الفكاهة تكمن في أعماق عينيه الزرقاوتن في اخضرار وهو يحدق بأتجاه يد جولي التي أمسك بها غي في أحكام . وسرعان ماطغت على رقبتها ومضة من الخجل لم تكن ريد ان تبوح بها ، ولكنها رغم ذلك استجابت لنظراته بالجرأة وكأنها تتحداه أن يعلق ، ولكنه فضل أن تترك عينيه تتفحصان زيها الرقيق مما حملها على الاحساس بانها شبه عارية . وقبل ان تجد جولى الفرصة لتعبر عن ضيقها من الطريقة كانت عينا ستيف تحدقان بها نحوها ، جاء اميل لوبلان يحييه بالفرنسية . و استمر الحديث بينهما بعض الوقت في اللغة ذاتها . " هل هذه فتاتك الجديده يا غي ." كان للسؤال وقع حاد جعل جولي تحول نظراتها بقسوة من ستيف الى الفتاة التي تواجهها . وكانت عيناها بلونهما البني الشديد القتامة تتفحصانها بأحتقار زائد . وكانت ثقة جولي بنفسها قد انكمشت عندما نظرت لى كلودين ذات الجمال الاخاذ . كانت لها نظرات ساحرة وكانت ملامحها خالية من أي عيب كأنها صنعت من العاج في تباين شعرها الاسود وحاجبيها الأسودين ورموشها الطويلة التي لم يكن لمواد التجميل أثر في جمالها الطبيعي . وكانت أقراط ذهبية كبيرة تتدل من اذنيها الصغيرتين لتضفى عليها مظهرا غريبا كمظهر الغجر . وبدت كلودين و كأنها نبات استوائي له ازهار وأشكال ساحرة ، بينما بدت جولي و كأنها زهرة ن أزهار الربيع تنتصب الى جوارها . و سمعت غي يشرح بشكل عام ظروف وجودها كضيفة دون أن يذكر انها تدفع ثمن اقامتها . ورغم كونه حاول ان يضفي أهمية خاصة على شخصيتها فانه لم يشيع احساسها بذاتها . وزاد من صعوبة الموقف أن كلودين تركت جولي وانصرفت عنها كما لو كانت لا تستحق اهتمامها ، واتجهت الى ستيف مماجعل جولي تشد بقوى على يد غي الذي نظر اليها في رفق واعتذار . و همست قائلة :" سوف اتصرف الى تغير ملابسى ." وكانت قد لمحت في زاوية عينيها كيف كان ستيف ينصت الى كلودين في اهتمام كامل . وقال غي في هدوء وحزم :" سوف نتناول الطعام في مكان ما " ولم تستطيع جولى ان تمنع ابتسامة الرضى التي ارتسمت على فمها بينما بدأت كلودين توجه اهتمامها فجأه اليها وقد احست بعزمها على الخروج وقالت :" هل تخرجان معا الى مكان ما؟" ولكن جولي تركت لغي أن يوضح الموقف . وتخلصت من نظرة ستيف التي كانت منصبة عليها .
8 –عينان ضد الوقار
عندما عاد غي وجولي في ساعة متاخرة من تلك الامسية . كان السكون يخيم على المنزل ولم يكن هناك سبيل لاكتشاف ما اذا كانت كلودين في البيت ام خرجت مع ستيف ولو تكن جولي عازمة على التحدث الى غي في ما يدور في تفكيرها . وبعد أداة الصلاة في الكنيسة صباح الاحد . اعد غى رحلة تشارك فيها ميشيل وصديقها ليذهب الاربعة في السيارة الى المنطقة الشهيرة التى تنسب الى القرصان جان لافاييت . وهي جزيرة صغيرة تقع في خليج باراتيرا وكانت كلودين ما تزال في الفراش ولم يكن ثمة مجال لاصطحابها في الرحلة وفضلت جولى صباح الاثنين ان تذهب الى مكان بعيد واختارت رحلة الى باتون روج وسلكت طريقا عاما رئيسيا يقوم على اعمدة من الاسمنت المسلح عابرا مساحه تمتد نحو عشرين ميلا من المستنقعات وخلال عودتها الى بيت لوبلان تلك الامسية لم تكن كلودين بين الموجودين في البيت ولكنها لم تسأل عن مكانها وظنت انها ربما مع ستيف و كان النوم قد خانها معظم الليل لذلك استيقظت متاخرة في الصباح التالي . وكادت تتراجع عن الدخول الى المطبخ عندما رأت كلودين جالسه مع امها الى المائدة ولكنها تصرفت بشكل طبيعي وصبت فنجانا من القهوة وجلست معها الى المائده وهي تتظاهر بانها لا تكترث لشئ وابتسمت ابتسامه مشرقة لكلودين وللسيدة لوبلان وقالت (صباح الخير ) واكتفت الاولى بالنظر اليها بينما ردت السيدة لوبلان التحية (اين تذهبين اليوم يا جولي ؟ لقد كنت احدث كلودين كي ترافقك في جولتك اليوم ) واجابت على عجل وقد لاحظت ضيقا على وجه كلودين : (( لا داعي لذلك . كنت أفكر في الذهاب الى جزيرة جيفرسون لمشاهدة الحدائق هناك . ولكنني احس بشئ من التراخي يمنعني عن ذلك اليوم ولا اريد ان افسد على كلودين برنامجها )) (( كنت افكر في الذهاب الى الريف اليوم لارسم بعض المناظر فقد ربحت كتيرا من اللوحات التي رسمتها عن مستعمرة ستيف بالالوان المائية . وكانت الابتسامة الغامضة التى ومضت على الشفتين القرمزيتين تقول بوضوح تام ان كلودين كانت لديها امور اكثر اهمية ينبغي ان تقوم بها . بل هي اهم بكثير من مجرد اصطحاب جولي والعمل كمرشدة لها . بينما خطر لجولي في شئ من الحقد ان كلودين قد تمضي بعض الوقت في بيت ستيف . وعلقت جولي في شئ من الاطراء بعدما حبست الرود الذي كانت تود ان ترد به و قالت : (( لقد رأيت بعض لوحاتك وفي رأي انها جميلة تماما )) وابتسمت كلودين في عذوبة لمرة الثانيه قائلة : (( ان معظمها معد للتوزيع بسعر مقبول في السوق . وقليليون هم الذين يهمتون بالاعمال الفنيه الحقيقية . وقليليون كذلك الذين يفهموها )) واحست جولي ان موقفها كشخص عادي يقدر العمل الفني واكتفت ان تحتسي قهوتها وهي تبتسم وقالت السيدة لوبلان بطريقتها في الثرثرة : (( هل قلت لك يا كلودين ان جولي اكتشفت ان مستعمرة اتيان كانت في يوم من الايام ملكا لاحد جداتها )) (( لا . لم تذكري لي شيئا عن ذلك . انه امر مثير ! )) ونظرت بعينيها القائمتين الى جولي قائلة : (( وكيف اكتشفت ذلك ؟ )) واحست جولي ان عليها ان تقوم بالشرح في رويه وقالت : (( في احد ايام الاسبوع الماضي الثلاثاء كما اظن دعاني السيد كاميرون الى مشاهده مستعنرته . ولقد جعلني اشاهد الاعمدة القائمة على الرافد واسم كاميرون منقوش عليها . وكان سيلفي كاميرون . وقد سميت هذه المستعمرة كاميرون هول )) ((هل كانت قربتك امريكيه ؟ )) كانت جولي تعرف ان الفرنسيين المقيمين في لويزيانا فترة ما قبل الحرب الاهليه كانو يعتبرون الامريكيين برابرة غير متمدتين . ولم يكن يسمح لسكان الولايات الشماليه اليانكي بالانتقال الى الجنوب الا في اضيق الحدود حتى ولو كانو اصلا من منطقة جنوب ماسون . ديكسون . وكان في لهجة كلودين وهي تسأل شئ من الاستعلاء (( الحق انها كانت سليلة اسرة فرنسية عريقة في القدم تنحدر من عائلة كريولي . وكان ابوها روبرت كاميرون ابنا لاحد المهاجرين الاسكتلنديين . قتل في الحرب الاهليه دفاعا عن الجنوب . ولقد تزوجت امها ثانيه بعد الحرب بسنات قليله وكان زوجها الثاني ضابطا في الجيش الشمالي وكانت كاميرون هول يبعث سدادا للضرائب )) وهمهمت كلودين في وهن (( انها غاية في الاثارة )) وعلقت السيده لوبلان في ابتسام : ((انها حقا مجرد صدفة ان تعود ملكيه كاميرون هون الى واد من اسرة كاميرون )) وسحقت كلودين بقايا السيكارة في المنفضة وقالت : (( انا شخصيا كنت اتمنى الا يشتري ستيف هذه المستعمرة . كان وضعه المادي سيتغير كثيرا الى الاحسن لو هو لم يشتريها )) واعترضت الام قائلة : (( كيف تقولين ذلك ؟ انه مكان جميل ! )) وعلقت كلودين : (( لن يستطيع اصلاحها الا مصرف كبير مثل المصرف الوطني . هل لديك فكرة عن المبالغ المطلوبة لاصلاحها ؟ كان بامكان ستيف ان يحتفظ بشئ من الثروة لو انه لم يهدر النقود في اصلاح ذلك المكان كي يجعله صالحا للسكن . ونفقات صيانه مثل هذا المكان لا تحتمل )) واحست جولي بشئ من الاستثارة لسماعها رأي كلودين في المستعمرات واقترحت في هدوء : (( اعتقد ان بامكانه جعلها مزارا للسياح بعد ان يكمل ترميمها وبذلك يستعيد بعض ما انفقه عليها )) واجابت كلودين بطريقة لاذعة : (( ما اكثر المستعمرات القديمة في الجنوب ! و المعبد او كاميرون هون او اي اسم تريدين ان تسميها به لا تتفوق على العشرات غيرها في شئ . بل اقول ان مستعمرة كاميرون هول لا يمكن ان ينسب اليها اي معلم من المعالم التى تركها جيش الاتحاد وتنجذب الزوار اليه )) واحتفظت جولي بهدوء في صوتها وهي تقول : (( اعتقد انك لابد ان تقفي الى جانب الرأي القائل بترميمها )) ولمع خبث في عيني كلودين القائمتين وقالت : (( انا لست حريصة على ان اعيش الحياة التقليدية التى عيشها الفنان ولا اريد ان اقبع في مرسم . انني اريد بيتا حديثا او شقة جميلة فهي افضل بكثير من مستعمرة لم يكتمل ترميمها وتنتشر فيها البرود والرطوبة )) واعترضت السيدة لوببلان فرفعت يديها في الهواء و قالت : ((انها تتحدث هكذا دائما وتترك عقلها يتحكم في عواطفها )) ونهضت كلودين كلودين عن المائده وحملت فنجانها الخالي الى الحوض قائلة : (( ان قرص الاسبرين يعالج الصداع تماما ولكن بالله ما الذي يعالج وجع القلب ؟! )) كانت جولي حريصة على ان تسمع الاجابة عن هذا السؤال الذي لم تكن كلودين تعرف له جوابا . فقد تحتاج هي الى العلاج الذي لم تستطيع ان تتخلصمن ذكري ستيفن كاميرون بسرعه . وما ان خرجت كلودين من المطبخ حتى انشغلت انها بنشاط كبير . واحتسب جولي قهوتها وعادت الى حجرتها حاولة ان تضع خظة لليوم الطويل المقبل عليها كانت الشمس تغرق الفراش وقد نثرت اشعتها الذهبيه على الجسم النائم . واخذ الطائر يردد صيحه اليقظة الصحو من الخارج النافذة في وهج الشمس الذي حاول ان يكتسحح استغراقها في النوم . واحست بعطر زهري يداعب انفها لعلها تستيقظ وتنهدت وحاولت ان تختلس النظر وبدات تدنو من وسادتها التماسا للدفء لحظات اخرى قليله ولكن تلك النظرت القصيرة جعلتها ترى شيئا لم تكن تتوقع ان تراه . وغضن جبهتها خط واضح وهي تفتح عينيها في اتساع وتحدق في شك الى الوساده المجاورة لرأسها . كانت هناك وردة متفتحه تستقر على غطاء الوساده الابيض وحمرتها القانيه تتباين في حدة مع اللون الابيض واخرجت يدها في تثاقل من اسفل الفراش وهي تتوقع ان تختفي الورده من امام عينيها . ولمست اصابعها القرع الدقيق الذي يحملها . وادركت انها الحقيقة . ونهضت من الفراش فجأة لتغرق انفها في وريقاتها الارجوانيه الضاربة الى الحمرة كان هناك خاطران يلحان عليها في ان واحد : حديث ستيف عن العادة القديمة لدى ملاك المستعمرات في ايقاظ الضيوف بعطر وردة ودخول شخص غريب الى الحجرة وامتدت يدها تشد الاغطية التى كانت قد تدلت لتغطي البيجامة الرقيقة التي ترتديها . ولمحت شبحا في المنطقة القريبه من النافذة . كان ستيف يتفحصها في صمت وكانت يداه تضربان على فمه وسقطت يداه الى ذراعي الكرسي وهو ينهض على قدميه وتنشقانفاسها وهي تحس بالحاجه الشديدة الى التنفس . وسألته : ((كيف دخلت الى هنا )) (( من الباب )) كان يستند الى عمود السرير ولم يبد عليه اي شعور بتأنيب الضمير للطريقة التي كان ينظر بها اليها ولا للموقف الحرج الذي كانت تعانيه وقالت : (( كيف تدخل الى هذا المكان ؟ماذا لو اكتشفت ذلك السيدة لوبلان ؟ )) ((انها ليست هنا ولقد وجدت ورقه تركتها لك في الطابق الارضي ويبدو انها ستقضي فترة الصباح كلها في الخارج )) (( ولكن لماذا انت هنا ؟؟)) كانت جولي قد بدأت تحس بالسخف شيئا ما و جذبت الاغطية باليد الاخرى اجاب : (( لقد احسست بأنك تحاولين ان تتجنبنني )) ((هذا تفكير خاطئ)) ولم تستطع جولي ان تواجه عينيه (( انني سعيد لسماع ذلك )) وشاعت في وجها ابتساامه لها سحر وتابع يقول : (( انك تبدين جذابة للغاية كأول شئ في الصباح . هل تعرفين ذلك ؟؟ ان كل ما فيك رقيق )) واحمرت خجلا بشكل عامر . وهي لا تعرف كيف تجيب على ذلك التعليق . ولم تجد ابتسامه ستيف الرقيقة العريضة في مساعدتها على الرد بل احست بالغضب عندما وجدته يعتبر الموقف مضحكا . ((والان .. وقد اقتنعت بانني لا احاول ان اتجنبك . اري انه من الافضل ان تترك غرفة نومي )) وجعلته يلمس شيئا من غضبها (( لماذا ؟ هل تخشين ان اتسلق اليك ؟ )) وهمست قائلة : (( انك لا تجرؤ على ذلك ))
**
**
**
اجابت في صوت واهن:"رحيماً" و توقف ستيف لحظة قبل أن يدير محرك السيارة و نظر إليها في صمت ثم قال:"إذا وعدت بألا تتركي هاتين العينين البنيتين الناعمتين تسحرانني. إنهما جديرتان بأن تفقد أي رجل ما بقي لديه من الاتزان" و التفتت جولي بعيداً و هي حائرة في ما إذا كان يعرف مدى خطورة عينيه الزرقاوين القاتمتين و أنها كم تمنت أن تغرق نفسها في أعماقها. و مع ذلك كانت تشعر بشئ من الاستثارة إذ اكتشفت أن فيها شئياً يثي أرقه. و لكن هل كان ذلك الشئ نفسه سلاحاً فعالاً أم مركزاً للهجو؟ و هي تعلم أنخطوطها الدفاعية واهية. و عندما استدار ستيف بالسيترة نحو الاتجاه المضاد و المقابل لسوق مدينة مارتنفيل نظرت إليه جولي في استغراب و قالت:إلى أين؟" و غض النظر عن الطريق لحظة لينظر إليها مطمئناً و قائلاً:"إلى نيو ايبيريا. أعتقد أننا سنجد هناك تشكيلة أكبر من أقمشة التنجيد لنختار منها إلى جانب ما نتمتع به من مناظر جميلة. هل ذهبت إلى هناك من قبل؟" و أجابت و هي تذكر كيف كانت رحلتها السابقة ثقيلة بعد الحديث غير المريح مع كلودين في ذلك الصباح:"لقد ذهبت إلى مستعمرة تسمى الأشباح على نهر تشيه. كنت هناك بالأمس" "و هل أعجبك المكان؟" "أوه، نعم! كان جميلاً للغاية و خاصة المروج الخضراء المطلة على الرافد. ولقد لاحظت كذلك أن واجهة المنزل تطل على الطريق لا على نهر تشيه" و حاول ستيف أن يفسر ذلك فقال:"ذلك لأن القافلة الأسبانية كانت تمر من هناك مما جعلهم يعكسون النمط العادي" و سألها:"و هل خرجت إلى جزيرة آفري؟ " وهزت رأسها قائلة : ((لا )) ((حسنا .. سوف نذهب في السيارة الى هناك بعد وجبة الظهيرة )) وعاد يوجه انتباهه الى الطريق . ووجدت جولي نفسها تستند الى مقعدها في قناعه و رضا . كانت تحس ببهجه عارمة وهي تجلس في مقعدها الى جانب ستيف وتعلم انها ستمضي النهار كله معه وتحت تصرفه . ولم يكن ستيف يعرف ماذا يعني لها الوقت الذي يقضيه معها ووجدا في المتجر الثاني الذي دخلاه في نيوابيبريا خامه القماش التى كانت جولي تريدها للاريكه و الكراسي . كانت من المخمل الناعم الاخضر الفاتح . تنسجم تماما مع خشب الجوز القاتم . ولسؤ الحظ لم تكن هناك كميه كافيه لقطع الاثاث الثلاث . واكد المشرف على المحل ان في وسعه ان يستحضر لهما ما يطلبانه من هذه الخامه مع الطرود الاتيه وقالت جولي موجه الكلام الى ستيف بلهجه مطمئنة : ((افضل ان تنتظر حتى يصل القماش الجديد فمن المحتمل ان تختلف درجه اللون )) ووافق ستيف وقال : ((انت على صواب )) وصحب ستيف جولي الى السيارة ثانيه بعدما تاكد من ان الشحنة المقبلة من القماش ستصل في اقل من اسبوع . ونظر ستيف الى ساعته و قال : ((لازالت امامنا ساعة حتى يحين موعد وجبة الظهيرة . ولكن بما انك لم تفطري فلماذا لا ناكل الان ؟ )) واعترفت جولي قائلة : ((بدأت أحس بالجوع )) (( اذا كنت تحبين الطعام المكسيكي فانني اعرف مطعما يقدم وجبة شهية من تلك الاطباق )) (( فكرة عظيمة )) كان مطعم رافييل صغيرا يقع في احد الشوارع الجانبيه وبدت زخارفة من الداخل مزيجا من البساطة و الاناقة توحي بجو كلاسيكي . وما كادا يجلسان الى احد الموائد حتى دخل الى الصالة رجل داكن البشرة كبير السن وما ان لمح ستيف حتى اشرق وجهه بابتسامه وخطا نحوهما يتهلل قائلا : ((ايستبان !)) واتبعها بفيض من الحديث في الاسبانيه لم تستطع جولي ان تدرك مضمونه واستطاعت ان تفهم ان كلمة اتيان هي ايستبان . وعرفت كذلك ان الرجل الذي بادرها بالتحية هو رافييل صاحب المطعم وادركت كذلك ان ستيف كان يتردد على مطعم رافييل كثيرا . وقام ستيف بالتعريف قائلا : ((رافييل . هذه هي مس جولي سميث . انها تمضي اجازتها هنا في لويزيانا )) والتفت الى جولي : (( اود ان اقدم لك رافييل الفاريز وهو صديق حميم لي )) ومدت يدها الى الرجل الاكبر سنا تقول : (( يوم طيب يا سنيور الفاريز )) قالتها بالاسبانية وانحنى الرجل برشاقة على يدها وهو يقول : ((أوه.. هل تتكلمين الأسبانية يا سنيوريتا؟)) و أجابت جولي : (( إنها مجرد تحيات أهلا و سهلا.. وداعا كيف حالك؟ )) و ابتسم السنيور الفاريز في اكتئاب و قال : (( للأسف إنها لغة جميلة للمحبين . ينبغي أن يقوم إيستبان بتعليمك هذه اللغة ))
تابع الفصل الثامن
والقت عيناها على ستيف الذي كان يرقبها في سرور نظرة ذات معنى وهو يقول في الاسبانية: - انه استاذ خاذق . وتدخل ستيف ليمنع التمادي في الملاحظات الشخصية واخبر رافييل عن الاصناف التي يفضلها للوجبة الخفيفة. ولم تهتم جولي كثيرا بأن تختار شيئا وتركت ستيف يختار لها بينما اخذت افكارها تشرد, وعندما غادر رافييل المائدة . قال ستيف : - تبدين شاردة! ما الذي يضايقك ؟ - كنت اخمن انك تتكلم الفرنسية بطلاقه. والآن تتكلم الاسبانية . - هل يدفعك حب الاستطلاع! - نعم اعرف الآن انك تمتلك مستعمرة. ولكن قبل ذلك لابد انك تعلمت تلك اللغات المختلفة قبل ان تأتي الى هنا. انني احاول ان اتخيل: ماذا كان عملك السابق ؟ - لقد عملت ضابطا على سفينة شحن غي رنظامية مدة 11 عاما . - وماذا تعني سفينة شحن غير نظامية ؟ - انها السفينة التي ليس لها مرفأ ثابت. فقد تحمل شحنة الحبوب من نيوأورليانزا الى اليابان مثلا , ومن هناك قد تحمل شحنة الى الهند وهكذا وقد نمضي على السفينة عامان او 3 قبل ان تعود الى الميناء نفسه . - وهذا هو السر في انك تعرف لغات عديده ؟ - الواقع انني اتكلم 4 لغات الى جانب الانكليزية. انها الايطالية والالمانية فضلا عن الفرنسية والاسبانية . ونظرت اليه جولي باستغراب من خلال رموشها وهي تقول : - قلت 11 عاما. لابد انك كنت صغير السن للغاية ! كان عمري 17 عاما وكنت يتيما ولم يكن لي اقارب من الدرجة الاولى او الثانية. وشدتني حياة البحر المليئة بالمخاطر والشاعرية .كنت في ذلك الوقت اعيش في الشمال في بوسطن وحلمت بالهرب الى جزيرة في البحار الجنوبية, وترددت على ارصفة شحن السفن عدة اشهر قبل ان يرفق بي قبطان تلك السفينة ويقبل قيدي ضمن ظاقم سفينته وعاملني كأب ولم تكن له نفس اسرة. وظللت ابحر معه حتى توفي منذ حوالي 5 سنوات . - وكان ذلك, هو التاريخ الذي قدمت فيه الى هنا ؟ - لقد عدت الى الولايات المتحده وانتهى بي المطاف في نيوأورليانز حيث قابلت كلودين. كنت قد مملت التجول بالرغم من انني عشقت حياة البحر . وومضت عيناه نحوها عبر المائده وقال : - هل تريدين ان تسمعي المزيد عن الماضي السيء ؟! - حسنا لقد اغفلت ذكر الفتيات اللائي تعرفت بهن في الموانئ المختلفة. وظهرت على وجهها ابتسامه تعذبه بأثارة رغبة فيه لا تعتزم اشباعها وواصلت: - لابد انك خلفت وراءك صفا من القلوب المنكسرة يمتد من اقصى الارض الى اقصاها . - لن احدثك عن النساء اللاتي كنت اقابلهن من فئات لا تعرف معنى انكسار القلب , على ان النساء المحترمات لا يترددن على الاماكن التي يقصدها البحارة للمتعه . وابتسمت جولي في اشراق عندما اقترب الغارسون ومعه الطعام وقالت : - لقد كنت على صواب الى حد ما عندما شبهتك بالقرصان اياه, سوف يبدو عليك اكثر رونقا. - لا اعرف وعلى أي حال فأن الفتاة لا تلبس قرطاواحدا في احدى اذنيها, والافضل ان تحتفظ به كتذكار . وسألها ستيف في هدوء : - الا تريدين تذكارا عن الوقت الذي نقضيه سويا ؟ واخذها السؤال على غرة فأجابت في حده: لا. كانت تعرف تماما ان ذكرياتها مع ستيف تظل حبه دون تذذكار . وحاولت ان تبدل حدتها الى مرح, ولكن ذلك لم يخل من زيف وعصبية . قالت : - ارجوا ان تحتفظ به لفتاة اخرى قد تبدو في زي اكثر جمالا مثل زي الغجر . وهز ستيف كتفيه في شيء من عدم الاكتراث وركز على الطعام وهو يقول : - قولي ما يحلو لك .
9- هناك قمر في مكان ما
كان المساء حالك السواد عندما استأنف ستيف وجولي رحلة العودة بالسيارة . وظهرت في المساء نجوم قليلة, ولم يكن للقمر أي اثر رغم ان جولي كانت تقول انه لابد ان يكون في مكان ما . وتجمعت قطع ضئيلة من الضباب على هيئة سحب رمادية فوق المستنقعات الممتدة على طول الطريق لتنسج بين الحين والاخر ستارا يشبه نسيج العنكبوت يطفو في الجو ليجري ملتفا كالدوامة اما السيارات المارة وكأنه ضباب راقص. كان ذلك بالنسبة الى جولي جزءا من سحر اللحظة الاثرية التي تعيشها وهي الى جانب ستيف. وما اسرع ما مضى من الوقت. فقد توقف ستيف في سيارته عند المنعطف المواجه لبيت آل لوبلان, ولم ينطق ايهما بكلمة بعدما اوقف محرك السيارة. لم تكن جولي في عجلة من امرها لتسرع بالدخول, ولم يكن ستيف في نفس الوقت يستحثها على ذلك. واشعل سيجارة وبدا وجهه في ضوء عود الثقاب وقد برزت ملامحه بروزا حادا وامتد الصمت بينهما وجاء صوت صرصار الليل في الخارج يتردد على مقعدها, واخذت تحدق في وجه ستيف الذي اعتلته بعض القتامة. وتمتم ستيف في شيء من العصبية وقال : - شيء لا يطاق . ونفض السيجارة من النافذة بحركة مضطربة والتفت نحو جولي فهمست وهي لاتدري اذا كان قد صدر عنها ما اثار غضبه . وقالت : - ماذا يضايقك ؟ وامتدت يده لتستدير حول رقبتها في قبضة مؤلمة, وقال : - انت ... لم يحدث ان قيل قبل ذلك ان .... ولم تتح لها الفرصة لتنصت الى ماكان ينوي قوله . اذ سارع الى عناقها فيما كانت يده تضغط عليها بقوة في مقعدها بحيث لم تستطع ان تقترب منه . ثم قال : - لا اريدك ان تدخلي. واجابت وصوتها يضطرم بالانفعال الذي اثاره فيها : - لا اريد انا ايضا ذلك . وحدق فيها من خلال الظلمة التي تغمر السيارة : - انك لا تدركين ما تقولين . من الافضل ان تدخلي الان . واضاف مؤكدا : - سوف .. سوف اتصل بك غدا . وفتحت باب السيارة واشتعل الضوء الداخلي آليا. وحدقت فيه قبل ان تخرج ولمحت الرغبة في عينيه وهما تنظران اليها . وكادت ان تغلق الباب من جديد لتستقر بين ذراعيه. ولكن العقل والحذر سيطرا عليها , وانسلت من السيارة واتجهت الى البيت بسرعة. كان البيت هادئا فيما عدا صوت موسيقى مكتومة اتيه من جهاز تسجيل من حجرة المعيشة فعرفت ان شخصا اخر كان هناك . ولم تكن جولي تود ان تقابل ايا من افراد الاسرة لتضطر الى اعادة سرد احداث اليوم . كانت تريد ان تحتفظ لنفسها بنكهة تلك اللحظات فترة اطول . ولذلك تسللت الدرج الى حجرتها . وتركت ياي الحجرة مفتوحا واجتازت لتشعل المصباح الارضي. وعندما قفلت راجعة لتغلق باب الحجرة رأت كلودين تقف عند المدخل . كان شعرها الاسود يتهدل على كتفيها وكانت تلبس قميص النوم لونه اخضر في زرقة غريبة ذكر جولي بريش الطاؤوس وبرز من تحته قميص قصير ينسجم معه. ونظرت الى جولي تقول : - لقد رجعت اذن! هل استمتعت بنزهة قصيرة مع ستيف ؟ واجابت جولي في هدوء وهي تحاول الا تتيح الفرصة اما كلودين للاستمرار في التحدي : - لقد امضينا معا وقتا سعيدا للغاية . - لابد انك جعلته يخضع لمشيئتك في التجول في المناطق السياحية . - الحقيقة ان ستيف اقترح ان ازور جزيرة آفري فذهبنا الى هناك بناء على اقتراحه . - يبق له ان زار افري مرات عدة, انها معجزة انه لم يضجر من هذه الزيارة بشكل يفقده صوابه .واجابت جولي وابتسامة خفيفة على وجهها اشعلت نار الغضب في عيني كلودين القاتمتين: - لا اعتقد انه ضجر على الاطلاق . واستدارت جولي تلتقط فرشاة شعرها وهي تأمل ان تفهم كلودين من خلال ذلك انها لا تردي الاستمرار في هذا الحوار. ولكن كلودين تشدقت من خلفها قائلة : - ارجو الا تحسبي انه يهتم بك فعلا . فانت فتاة تنقصها الخبرة وربما تجلبين لنفسك الضرر . - اعتقد انني في سن يتيح لي ان اعرف كيف احافظ على نفسي . - رجولته يمكن ان تصبح مسيطرة ولقد وقعت في حبائله نساء اكثر منك خبرة . ونظرت جولي في سذاجة الى كولين وقالت : - وهل كنت انت واحده منهن ؟ - انني اكثر من غيري خبرة واحتمالا, واعتقد انك تضعين نفسك في موقف لم تنضجي له بعد . - هذه مشكلتي انا اليس كذلك ؟ واجابت كلودين في حده : - بالطبع كنت احاول ان اقدم لك نصيحه ودية صغيرة . ولكن اذا كنت تفكرين في قضاء وقت سعيد من اجازتك بدون ان تتورطي فاستمتعي بوقتك ولن تجدي افضل من ستيف ليحقق لك ذلك . ولكن تأكدي من انه لن يقبل الاتباط ابعد من ذلك . - اعتقد ان ذلك سبب لك شيئا من الكدر . وبدا الغضب المكبوت على وجه كلودين وقالت : - ستيف رجل ككل الرجال ويجد في رفقتي ما يشبع تطلعاته . - تستطيع أي امرأة ان تفعل ذلك . كان الحديث بينهما قد تطور بشكل سريع انطشفت معه في وضح كراهية كلودين لجولي. وقالت في تحد : - لنتكلم بصراحة. قد اجد في سذاجتك شيئا من التسلية الآن. ولكن الامر لن يستمر هكذا فاما ان ينجح في غوايتك وعندئذ تفيقين على الحقيقة. أو ان يشعر بالملل منك وعندئذ يهجرك تماما . وانت بالنسبة اليه مجرد ذكرى عارضة وسوف تدركين ذلك بنفسك . واستلت جولي مخالبها لترد عليها : - قد تكونين على صواب ولكن الا يمكن ان يكون قد بدأ يحس فعلا بالضجر من البضاعة المستعملة وقد يكون بحاجة الآن الى ان يجرب شيئا جديدا تماما يستطيع ان يشكله بما يتمشى مع تطلعاته ؟ وارتفعت يد كلودين مهدده وظنت جولي للحظة انها ارادت ان تصفعها ولكن كلودين تراجعت واتجهت نحو الباب من دون ان تغادر الحجرة . واستدارت نحو جولي لتقول في احتقار : - انك ترتكبين غلطة كبيرة . وغادرت الحجرة واخذت جولي تمعن التفكير وتحدث نفسها: لقد كسبت الجولة الاولى ولكنها الحرب الآن. كشفت كلودين النقاب عن مشاعرها, ولم يكن واردا لدى جولي ان تتراجع امام أي شخص. وكان اليوم رائعا رغم ما يمكن ان يأتي به الغد من متاعب, ولم تكن تريد ان تشغل نفسها الليلة بما يمكن ان يحدث غدا . وعندما وضعت رأسها على الوسادة كان كل ما تفكر فيه هو السعادة المنتشية التي تحس بها وهي بين ذراعي ستيف. ولم تكن تريد ان تترك لسان كلودين اللاذع الحقود يؤرق احلامها . استيقظت جولي باكرا في الصباح التالي , وارتدت ثوبا ابيض اللون زاهيا تزينه بعض الازهار البرتقالية والصفراء, وحذاء خفيفا برزت منه اصابع قدميها. واستخدمت بعض الماكياج البسيط والقت نظرة على المرآة فكانت راضية كل الرضا. وراحت تردد نغمة مرحة وهي تهبط الدرج الى المطبخ . كان كل ماقاله ستيف انه يتصل بها اليوم وان لم يذكر شيئا عن اعتزامها مرافقتها الى مكان معين, ولم يذكر كذلك شيئا عن الوقت الذي يتصل فيه : هل هو الصباح؟ ام المساء ؟ وكانت على استعداد للاستجابة لأي شيء . وجلست السيدة لوبلان وميشيل وغي الى مائدة الطعام الصغيرة فيما كان اميل لوبلان قد خرج . اما كلودين قلم تكن قد استيقظت بعد ولم يؤثر ذلك في جولي اطلاقا. وبدت السيدة لوبلان كعادتها مبتهجة . وكانت سعادة جولي الغامرة تتناسب تماما مع التحية المشرقة التي قابلتها بها. واومأ غي اليها ايماءة مقتضبة بدا فيها شيء من الاكتئاب والاتهام . لكنها تجاهلته وراحت تصب لنفسها فنجانا من القهوة, وجلست على الكرسي الشاغر عند نهاية المائده . وعلقت ميشيل وقد بدت في عينيها نظرة سليطة واتجهت الى جولي ثم الى اخيها وهي تقول : - لقد تسللت الى فراشك الليلة الماضية دون ان تقصي علينا من مغامراتك بالامس . وعلقت السيدة لوبلان: - صحيح يا جولي, حديثينا اين اخذك إتيان ؟ وظل غي يحدق في فنجانه باكتئاب وبدأت جولي تقول : - لقد ذهبنا الى جزيرة افري . وراحت تنقل اليهم انطباعاتها عما رأته وهي تتجنب ان تركز شيئا من الحديث حول الذي كان يرافقها . وتحمست السيدة لوبلان خلال الحديث فقالت : - ما اجمل هذه الحدائق في شهر اذار عندما تزهر الازاليا والكاسيليا! عند ذلك ترين الوانا عديدة وزهورا كثيرة في كل مكان . وعلقت جولي قائلة : - ان اجمل مافي حدائق الغابة انه ليس من الضروري ان تكون الازهار متفتحه لكي يستمتع الزائر بالمكان. وبالطبع فهناك ازهار عديدة متفتحة على مدى اشهر السنة ولقد كنت حريصة على زيارتها مهما كلفني ذلك . وابتسمت السيدة لوبلان وقالت : - انني لسعيدة مون اتيان اصطحبك الى هناك . وقطع غي صمته الذي فرضه على نفسه وقال : - ولكن كلودين ليست كذلك . ونظرت السيدة لوبلان الى ابنها في استغراب وقالت : - لماذا تتضايق كلودين من ذلك ؟ وهز غي رأسه في يأس وقال : - لا يعقل ان لا تعرفي السبب ! وردت السيدة لوبلان في تأكيد: - اذا كنت تحاول ان تقول ان هناك شيئا جادا بين اتيان وكلودين فأنت محطئ. انهما يعرفان بعضهما البعض منذ امد بعيد.4 او 5 سنوات؟ لقد كان هذا الوقت كافيا لاستكشاف اذا كان مابينهما يمكن ان يؤخذ بجديه ام لا. الا ترى ان ما مضى من الوقت بين اتيان وكلودين كاف لأن يعبر هو عن اعتزامه الاقتران بها؟ اعتقد ان ما بينهما مجرد صداقة لا اكثر . وابتسم غي ونظر الى امه في شيء من الاسف قائلا: - انك تعتنقين افكارا محافظة للغاية . واومأت قائلة : - ربما ولكن عندما يضع الرجل خاتم الزواج حول اصبع المرأة فذلك يدل على انه جاد. اما قبل ذلك فهو شيء من العبثو اعتقد ان ما يضايقك هو كون جولي هي التي كانت مع ايتان, وكنت تود ان تكون انت من امضى اليوم مع جولي . وعلق غي : - ربما تكونين على صواب في ذلك . كانت السيده لوبلان على استعداد لمتابعة الحديث في هذا الموضوع. ولحسن الحظ دق جرس الهاتف في الصالة, فأسرع نبض قلب جولي توقعا لما قد تأتي به المكالمة. ونهض غي عن المائدة قبل ان تجد أي من شقيقتيه الفرصة للاجابة وقال : - سأرد على المكالمة . ونظرت ميشيل الى ساعة الحائط وتنهدت قائلة : - ارجو ان يكون المتحدث ناظر المدرسة فيبلغني ان ماسورة المياه قد انكسرت وان المدرسة غارقة في المياه. انني لا اريد ان ارى هؤلاء الاطفال اليوم . قالت ذلك وهي تجمع اوراقها استعدادا للخروج وواصلت: - اعتقد ان المعلمين يتطلعون الى نهاية الاسببشوق اكثر مما يتطلع اليه التلاميذ. وجاء صوت غي معلنا : - جولي المخابرة لك . تمتمت معتذرة وهي تغادر المائدة. وامسكت السماعة قائلة: - آلو . وكانت تعلم ان المتحدث لم يكون سوى ستيف واجاب ستيف : - صباح الخير هل نمت جيدا الليلة الماضية ؟ وضحكت في عصبية وقالت: - لم ادر بنفسي اطلاقا . - هذا حسن اما انا فلم تغمض لي عين . - آسفة لذلك . - حقا ؟ ولكن هذا لا يساعد كثيرا في العلاج . - اعرف ذلك . - لقد اتصلت بك لأخبرك انني مشغول اليوم. فقد تعطل احد الجرارات الخاصة بالمزرعة امس, ويجب ان اذهب الى لافاييت لأشتري بعض قطع الغيار . وسوف امضي جزءا كبيرا من النهار وربما الليل لكي اكمل اصلاحه . وعلقت جولي وهي تحاول ان تخفي ما احست به من احباط : - على كل حال لم تكن لدينا خطة محدده ولم يكن بامكانك ان تتنبأ امس بما كان سيحدث للجرار اليوم . وجاء رد ستيف معبرا في صدق عن آسفه : - انني ايضا احس بالآسف يا جولي, فما خطتك اليوم اثناء انشغالي باصلاح الجرار ؟ - سأجلس لأفكر فيك . وهمهم في قسوة وسخرية : - ان أي تعليق اخر مثل هذا قد يجعلني اغير رأيي واهمل الجرار . - هل تعد بذلك ؟. قالتها في جراءة وواصلت : - انني اتراجع عما قلت. وعلى كل حال فأنا ابنة مزارع وافهم جيدا اهمية اصلاح الجرار . - شكرا يا حبيبتي . واذا ربما الى الغد . - نعم , الى الغد . وبعدما اغلق الخط اعادت جولي السماعه الى مكانها واستقرت يدها عليها لفترة قصيرة كما لو كانت بطريقة لاشعورية تطيل حديثها مع ستيف . وسمعت صوت خطوات تقترب نحوها واصطنعت ابتسامة على وجهها , والتفتت لتجد غي يحدق فيها وعيناه تعكسان شيئا من الشك والضيق . وقال : - في وسعنا ان نلعب بضعة اشواط من التنس عصر اليوم اذا كان لدينا وقت يسمح بذلك . - انني على استعداد . قالتها في هدوء وهي تأمل ان تكفر عن ذنب كانت تحس به ازاءه, ومع ذلك لم تكن تستطيع ان تنكر انها وقعت بالفعل في حب ستيف وان غي لم يكن بالنسبة اليها اكثر من صديق وشرع غي في الاجابة ثم توقف واغلق فمه باحكام واتجه نحو الباب الامامي وهو يومئ برأسه. وبدت جولي وكأنها لم تتأثر بالكآبة الواضحة على وجه غي ولا بالخبر الذي سمعته من انها لن ترى ستيف اليوم . فلقد عززت المكالمة الهاتفية املها في ان ستيف كان يريدها ان تكون معه. وبدا ايضا اسفه الواضح لعدم تمكنه من رؤيتها وكان ذلك في ذاته نوعا من المواساة . عندما حان وقت العصر كان غي قد تخاص من شعور الكآية الذي سيطر عليه واختفى التوتر الذي انتاب جولي عندما اطمأنت الى تصرقه الذي كان يعكس ارتياحه. وبعدما لعبت شوطين انتصر فيهما غي بنقط قليلة حضرت مجموعة صغيرة من اصدقاء غي, ولم تعد جولي مركز اهتمامه . فقد لمحت تعلقه بفتاة جذابة شقراء, وشاركت جولي في بعض اشواط التنس الاخرى الفردية والزوجية كانت تتمنى بعدها ان تعود الى البيت . ولكن غي كان يتلكأ في ذلك رغم ان من في المجموعة أبدوا ميلا الى الانصراف . وكانت جولي تريد ان تذكره بأن موعد العشاء قد حان, ولكنها خشيت ان يضايقه ذلك . واخيرا انفرط عقد المجموعة عندما لاح الشفق القرمزي وصحب غي جولي عن مضض الى سيارته وحاول ان يعتذر فيها عن سلوكه فقال : - لقد استعرت عبارة عن ستيف سمعتها منه فيما كان يوبخ كلودين قاءلا انه لاتوجد امرأة في حياة أي رجل لا تستطيع امرأة اخرى ان تجعله ينساها . واخذت جولي تسأل نفسها : " هل يعتقد ستيف ذلك حقا ؟" واحست بشيء من الهلع يعتصر قلبها. هل يعتم ستيف بها حقا ؟ هل كان عناقه لها يعكس شعوره الحقيقي بالحب نحوها؟ وكان ما يثير ذعرها انها سمعت ستيف يقول لها ان الزواج شيء لا يفكر فيه . بل لقد انكر مرة وجودها ما يسمى الحب . ولعله لو عرف انها وقعت في حبه بالفعل لابتسم وقال لها انها سوف تشفى من ذلك الحب . واستعرضت في خاطرها الحياة التي يعيشها ستيف وطنت انه من غير المحتمل ان يكون قد احس أو شعر في أي نوع من الحب. لقد تيتم في سني مهده الاولى وامضى شبابه في البحر متنقلا من ميناء الى ميناء. ولم يألف ان يكون له مستقر على هيئة بيت, ولم يكن غريبا ان ينجذب الى كاميرون هول المستعمرة التي حملت اسمه على بوابتها . ولكن هل كان ذلك ليقدم له أي قدر من الاطمئنان ؟ هل كان يحبها حقا ؟ ام كان في استطاعة امرأة اخرى ان تحل محلها في ذكرياته؟ كانت تخشى ان تكون مجرد واحده من قصص عاشها على ظهر السفينة. مجرد فتاة في احد الموانئ! كانت وهي تجلس في صمت الى جوار غي تحس بالخوف والقلق وبالاذى المرتقب .
10- حريق في البحيرة
سأل ستيف جولي بعدما عبرا الجسر الصغير فوق الرافد ودفعا الرسوم المقرره: - بما انك اصلا من الشمال فلا اعتقد انك لاحظت استواء الارض الواضح هنا في جنوب لويزيانا. - نعم ولا . فقد لا حظت ذلك لكنني اعتقد انك تسأل : هل لفت ذلك انتباهي بشكل غريب ؟ وأومأ ستيف بالايجاب وعندئذ علقت : - اذا لا . - التلال غير منتشرة هنا حتى انها تعتبر شيئا نادرا. وفي حديقة الاوديون في نيوأورليانز تجدين التل الوحيد, في العالم على الارجح الذي صنعه الانسان ويسمى تل القرود فلقد تكدست النفايات الى ارتفاع وصل الى حوالي 40 قدما في الثلاثينات واصبح بأمكان الاطفال في لويزيانا ان يشاهدوا منظرا مثل التل . وضحكت جولي وقالت : - لا انها الحقيقة, وهذا هو السبب في ان جزيرة افري اصبحت من الغرائب منذ زمن بعيد. واعلى نقطة فيها تصل الى حوالي 170 قدما فوق سطح المياه التي تحيط بها, وهذا ما يجعلها تتمتع بمركز فريد وان لم يكن قد اكسبها قيمة . - ما الذي جعلها كذلك ؟ - الملح وهو اكتشف لأول مرة في ينبوع في احد الوديان الضيقة الشديدة الانحدار, يتحول بالغليان الى اشكال بلورية. ورغم ذلك فقد كان استيراد الملح في اوربا في القرن 19 اقل كلفة. وعندما قامت الحرب 1812 وحاصرت انكلترا الولايات المتحده كان من الضروري الحصول على الملح بكميات كبيرة بطرق اوليه للغاية عن طريق الغليان والتبخر . وقد اقتضت الحرب الاهلية والحصار التحادي فيما بعد ان يعتمد الجنوب على مصادره الخاصة للحصول على الملح. وعندما حاولوا تعميق الينبوع المالح اكتشفوا كمية كبيرة من الملح الصخري مترسبة مسافة اميال والى اعماق لم يكن التكهن بها ممكنا . واصبحت هذه مناجم الملح منذ ذلك العهد. وسنقوم بجوله في منجم الملح اولا . وتجاهل ستيف اللافته التي تشير الى الحدائق الكائنه في الغابة وتابع : - والملح لا يكتمل دون الفلفل. وجزيرة افري هي منبع صلصلة خاصة تصنع في الجزيرة كلها. واكتشفت جولي ان المنجم مثير وباعث للاهتمام. كانت السقوف مرتفعه 60 قدما وكأنها تستند الى اعمده بلورية. ولم تنس جولي ان السطح كان على مسافة تصل الى ما يقارب من 500 قدم. وبدا شعور بالخوف من الاماكن المغلقة يراودها عندما استأنفا العوده الى السطح. ثوسألها ستيف وهي تستنشق انفاسها بعدما خرجا : - هل انت في حال افضل ؟ ونظرت اليه في دهشة وتنشقت الهواء وقالت : - وكيف عرفت ؟ وابتسم وقال : - بدا عليك الشحوب قليلا. سوف اتذكر في المرة المقبلة ان الاماكن التي تقع تحت سطح الارض لا تنسبك . كانت جولي قد احست بسحر الكلمات ولم تعد قادره على تثبيت قدميها وشعرت انها تسبح وهي تعود الى السيارة مع ستيف. وكانا على مسافة قريبة من المنحنئ المودي الى حدائق الغابة ومدينة الطيور . واشار ستيف الى قصر كائن على الطريق المقابل لبوابة الدخول وقال : - ذلك هو تل ماي وارد انه صرت الحديقة وكان يخص المتوفى ادوارد افري الذي ينسب اليه انشاء حدائق الغابة ومدينة الطيور. هل انت مستعده للمشي ؟. ونظر اليها في ابتسامه تدفعها الى الاستسلام وعلقت عندما توقف بالسيارة في احد الاركان: - ولكن الطريق لا ينتهي هنا . - نعم ولكن لكي نجد الفرصة للاستمتاع الحقيقي بجمال المكان, ينبقي ان نسير على الاقدام, فضلا عن ان هذه هي الوسيلة الوحيده للوصول الى مدينة الطيور . وتبعته وهي تقول : - المشي متعتي . - حسنا. ومع ذلك فلن نستطيع ان نقطع الحدائق بأكملها. فالمساحه تزيد على 250 فدان . وقادها الممر الذي سلكاه الى احواض نمو الخيزران المستورد, تنتهي برصيف وبرج للمشاهده يمتد عبر بركة تسبح فيها الطيور المائية باعداد متفاوته. كان المكان ينعم بهدوء جميل جعل جولي تفضل البقاء فيه. ولكن ستيف اقنعها بأن امامها الكثير من المناظر التي تستحق المشاهده. وشقا طريقهما من جديد بالسيارة . كان الطريق ينحني ويستدير في تلك المنطقه وبدت اشجار الماجنوليا جميلة الاوراق والزهر, كذلك اشجار البلوط الضخمة على الجانبين تليها احواض الخيزران العالية او الخفيضة وبعض الاشجار المزهرة. وتوقفا ثم سارا خلال الارض المنخفضة وبين زهور الكاميليا البيضاء والحمراء وشاهدا الشلالات الصناعية. وعادا الى السيارة ليستأنفا جولتهما بمحاذاة رافد الانسو الصغير للانتظار, ووجدا لافته جذبت انتباههما الى شجرة كليفلاند الشهيرة التي كانت تستخدم منذ سنوات كنقطه يتم منها منح المنطقة الاصلية. ولم يحتج الامر هذه المرة ان يطلب ستيف من جولي السير على الممر المؤدي الى الشجرة فخرجت من السيارة في حماسة لتطل عن كثب على ذلك القسم من الحدائق . ووقفا تحت الشجرة العملاقة يأملان فعل الطبيعة واثر الزمن في الاغصان المتكسرة والشقوق الغابرة في جذعها الاخضر. ومع ذلك بدت الشجرة قوية تستطيع ان تصمد مئات السنين وعليها مجموعات من الطحالب الاسبانية تبدو وكأنها لحية رجل متقدم في العمر . ولكن الممر لم ينته عند الشجرة بل كان يمتد فيما يشبه غابة كثيفة. وسألت جولي في استغراب : - اين يتجه الممر بعد ذلك . - سوف نستكشف . واشار اليها بأن تسبقه قائلا : - انتبهي فالممر لا يستخدم كثيرا وقد يكون لزجا . كانت العروض الخرسانية مغطاة بالطحالب في بعض الاجزاء وكانت قد تكسرت قطعا صغيرة في اجزاء اخرى. وساعدتها يد ستيف التي كانت تسند مرفقها على اجتياز الطريق رغم ان ملمسه كان يثير فيها بعض الاضطراب .. وبدا على احد حافتي الممر مستنقع مائي يشبه مجرى صغير بينما ارتفع قصب الخيزران على الحافة الاخرى. وعند ثنية منحنى في الممر ظهرت بجعتان بيضاوان تسبحان في بطء على الماء. واحسا بوقع الخطى فبدأتا تتحركان في مشهد رائع واحدثتا بعض التموجات الطفيفة على سطح الماء الرائق كالمرأة . كانت جولي قد سحرت بمظر الطائرين البديعين حتى انها لم تنتبه الى الارض غير المستوية امامها واصطدمت قدمها بقطعه من الخرسانه كادت تسقط معها الى الامام ولكن ذراع ستيف حمتها من السقوط, واحمرت وجنتاها من الاضطراب وتلعثمت وهي تشكره . وحاولت ان تتخلص من ذراعه المحيطه بخصرها والتي كانت تشدها لتلتصق به , ولكنه رفض ان يرخي قبضته وهمس برقة في اذنها قائلا : - لم يكن من السهل ان نتجنب ذلك. كان من اللازم ان ينتهي بك الامر بين ذراعي بطريقة او بأخرى . وقبل ان تتمكن جولي من ان تستدير لمواجهته كان بينهما عناق مسيطر . وجاءت قهقه من الاطفال على مسافة قصيرة لتهدئ من هذا الوضع قبل ان يتطور ما بينهما الى مرحلة اخرى . ورغم ذلك لم يسمح لها بأن تبتعد عنه بل احتفظ بها بين ذراعيه ورأسها يستند الى صدره حتى هدأت دقات قلبها واستقرت انفاسها بعض الشيء. وايقنت جولي التي كانت تتطلع الى مزيد من العناق انه لولا اصوات الاخرين لربما قادها العناق الى نقطه لا تؤتمن. كان عمق حبها له يمنحها السيطره عليها . وتحركت يد ستيف نحوها وترك اصابعه تعبث في شعرها وتحرك ابهامه ليرفع ذقنها الى اعلى . ولم تحاول جولي ان تجفي اشعاعات الحب من عينيها اذ ما جدوى ان تخفي عنه ماكان قد ادركه تماما, وتمتم في صوت اجش : - لقد بدأ وهجك يلفحني كيف نجحت في اخفاء هذا الجانب العاطفي من طبيعتك؟ كان اولى بأحد الفرسان ان يقطفك للزواج منذ زمن بعيد . وهمست جولي وهي تحس بأنها تغرق في نظراته قائلة : - ينبغي للمرأة ان تبدي موافقتها على الزواج . وتنشقت نفسا عميقا بينما كان ستيف يحاول ان يقرأ مابين الكلمات التي نطقت بها. واحكم ذراعيه حولها. وتوقفت جولي فجأة حتى ان ستيف كان يصطدم بها . كانت يداه تستندان الى اسفل ظهرها بخفة. وحدق اليها في تجهم قائلا : - هلا كففت عن النظر الي بعينيك البنيتين ؟ كانت جولي تستطيع ان تتبين ان رقة صوته مفتعله . وتابع هو : - لا اعتقد ان هذا هو المكان الذي نستطيع فيه ان نحقق مشهدا عاطفيا متقدا بينما بوذا يطل علينا . ونظرت جولي عبر كتفيها وعلى تل صغير في معبد زجاجي معلق كان هناك تمثال ضخم من الذهب لبوذا يحيط به تلاله السبع يحدق في بركة صغيرة تعكس صورته على الماء في شمس المساء المتأخر. وبدفعه رقيقة من ستيف واصلت السير على الممر الذي ادى بهما الى قاعه المعبد . كانت الحديقه الصينيه موضع اهتمام الزوار يتوقفون للاستماع بمنظرها الجميل. ولم يعد هناك مجال ليتمتع ستيف وجولي بخلوة التي كانا منفردين بها وهما يتجولان في اقسام اخرى من الحديقة. وبعدما تسلقا الدرج المؤدي الى المعبد استطاعا ان يلقيا نظرة اقرب على بوذا الذي كان منذ اكثر من 8 قرون مضت يجلس في معبد شونقا بالقرب من بايينغ في الصين. وقفلا راجعين الى السيارة وسلكا الطريق العام الضيق الآهل بالمارة بدلا من الذي كان يتيح لهما الاستمتاع بالخلوة بينهما . واتجها بالسيارة الى بوابة الخروج مارين تحت ظلال كروم الفستيريا ذات الزهر العنقودي الازرق والابيض وتحت زهور الكاميليا, بعدما اجتازا المنعطف الواقع عند تل ماء وارد. كانت الشمس تميل الى المغيب بأشعة ذهبية برتقالية حجبت مؤقتا اطياف الغروب القرمزية . وتنهدت جولي في عمق وهما يجتازان البوابات الحجرية التي كانت تعلن نهاية اليوم الذي قضته جولي مع ستيف وحان الوقت ليصطحبها الى البيت الذي تقيم فيه. اما هي فكانت تتمنى ان يطول اليوم الى الابد . وسألها في لهجة امرة : - هل تتناولين العشاء معي ؟ واجابت في حماسه : - اتمنى ذلك . وتوقفت بعض الوقت لتضيف شيء من التردد : - ولكنني لست بالزي الذي يسمح لي بذلك . وضحك وهو ينظر الى قميص البولو الذي تلبسه والى البنطلون المخطط بالابيض والاسود وقال : - ولا انا ولكن المطاعم هنا لاتصر على الرسميات . ومد يده الطليقة عبر المقعد لتمسك بيديها وقال : - اين تتناولين العشاء ؟ - لا اعرف شيئا عن المطاعم هنا . - هل تفضلين الاسماك ؟ - لم اكلها منذ زمن طويل, وان كنت قد تناولت بعض القريدس وجراد البحر عندما كنت مع اسرتي . - هذا يحسم الموضوع. اذن ستكون وجبتنا بحرية . كان منظر المطعم يصلح ماده لصورة جميلة. وكان يلاصق رافدا مائيا ويقوم على ركائز ترفعه حوالي 3 اقدام فوق الارض . اما الطريق المؤدي اليه فكان اشبه برصيف بحري تنتشر عليه شباك الصيد وفوانيس الاضاءه المستخدمة في البحر تتدلى على واجهة المبنى التي فعل فيها الطقس فعله . اما في الداخل فقد بدت مناظر السفن الشراعيه في البحار الهائجة. ومناظر المرافئ الهادئة تزين الجدران جنبا الى جنب مع بقايا تذكارية من سمك السيوف وغيره من عينات اخرى . اما الجدران فقد غطت برقائق خشبية بأعمدته الخشبية بعض النجف لينسجم مع المنظر العام. كان كل شيء يعبر عن البساطه في حياة البحر . واستأذن ستيف بعدما جلسا الى المائدة مباشرة ليجري اتصالا هاتفيا وراحت جولي تتفحص الطعام بعناية . ولم يذكر ستيف شيئا عمن اتصل بهم ولم ترغب جولي ان تتدخل فيما لايعنيها وان عبرت ملامح وجهها عن التساؤل دون ان تنطق به وابتسم ستيف وقال : - لقد اتصلت بعائلة لوبلان حتى لا تنتظرك على العشاء . - كان ينبغي ان افكر في ذلك خاصة انني لم اترك أي اشارة عن وجهتي اليوم . وحول ستيف الحديث بمهارة عندما وجد الفتاة التي تقدم الطعام آتية نحوهما فقال: - ما الذي استقر عليه رأيك من قائمة الطعام ؟ - لا استطيع ان اتخذ قرارا ما اذا كنت اطلب شيئا اعرفه او اجرب اشياء قد لا تعجبني . من الافضل ان اختار منتصف الطريق قريدس مسلوق مثلا ؟ - جربي طبق طعام البحر ففيه قليل من كل شيء اذا كان لديك استعداد للتجريب . ووافقت جولي وسرعان مابدأت تشك في قرارها عندما قدم اليها فيما بعد طبق مكدس لم تر فيه شيئا تعرفه سوى القريدس المقلي. وبرز احد الاصناف على الطبق على شكل جسم مستدير تخرج منه ارجل في سائر الاتجاهات حسبته نوعا من العناكب مما اثار احساسها بالغثيان. وكان ستيف طلب لنفسه الطبق ذاته وادرك على الفور ما اصابها من الاضطراب. واشار الى 3قطع ذات لون بني غامق على طبقها وقال : - هذا محار مقلي . واشار الى قطعتين مستديرتين قائلا : - وهذا قريدس محشو اما الاخر فهو كابوريا محشوة وهنا تجدين القريدس المسلوق وستجدين كذلك المقلي منه . وبدأت جولي وجبتها بالاصناف التي اعتادتها القريدس المقلي وانتقلت الى المحار ولم يكن له المذاق الذي لنظيره من يخنة المحار. وكان القريدس المحشو والبكتريا مذا لذيذ. اما المسلوق فكان متبلا تتبيلا جيدا. وبقي الشي الوحيد الي لم تأكله هو الكابوريا ذات الصدقه الهشة. واخذت بالشوكه قطعه من لحمها الطري ورفعته في تردد الى فمها . وبعد دقيقه نسيت فيها تماما أي لحم هو . وجدته لذيذ المذاق وكانت القضمة الثانية افضل من الاولى وشعرت بالزهو تماما الى ان تحدث ستيف قائلا : - بالنسبة الى الكابوريا ذات الصدفة الهشة يأكل الانسان منها كل شيء. ونظرت اليه في شك وقالت : - انك تمزح . - لا امزح بل تأكلين كل شيء ولكي يبرهن صحة كلامه نزع واحده من الارجل الكبيرة للكابوريا من طبقه ودفعها الى فمه. وكادت عيناها تخرجان من مكانهما وهي ترقبه يمضقها بأسنانه ويبتلعها. وانطلقت من فمها قهقة قصيرة عندما ادركت انها لم تكن خدعه وان رجل الكابوريا لن تعود للظهور مرة اخرى . وقال يؤكد لها : - انها لذيذة المذاق حقا جربي واحده . ولم تدع رغبتها في تجريب الطعامتخذلها هذه المرة وخاصة ان ستيف كان ينتظر .. واستجمعت شجاعتها ونزعت احدى الارجل الصغيرة ورفعتها في خوف الى فمها ولم تسمح لنفسها بالتردد وبدأت تقضمها . وكانت مثل كل شيء لذيذة هي الاخرى . وابتسم ستيف وقال : - الواقع ان الارجل الاكبر والاذرع الامامية اطيب مذاقا . وعندما جاءت الفتاة تقدم الحلوى, لم يكن في طبق جولي شيء كثير من البقايا. وكان ستيف قد احسن الاختيار بأن طلب خليط فواكه طازجه . ولم تكن جولي تظن ان بوسعها ان تتناول شيئا اكثر من ذلك ولكن الخليط كان مفاجأة اخرى, فلم يكن مذاق أي من انواع الفاكهة ينسجم مع مذاق نوع اخر. كانت هناك كرات من البطيخ لا تنسجم مع مذاق نوع كور من العسل. ولم يكن طعم الاناناس يتمشى مع طعم الكريب فروت. اما الفراولة فكان لها طعمها الخاص بها. واخيرا استرخت في كرسيها وقد شعرت بالامتلاء وتنهدت وقالت وهي ترى ستيف يشعل سيجارة : - كان كل شيء لذيذا . - يسرني ان الطعام اعجبك انه لشيء جميل ان يأكل الرجل مع امرأة لا تمتعض خلال الطعام . - لن تحتاجي الى اقناعي بأن اكل كثيرا . فقد نشأت في مزرعه وبالمناسبة فلقد بدا انك تعرف جميع انواع النباتات هنا . وعندما احست بشيء من التردد شجعها ستيف قائلا : - نعم وماذا في ذلك ؟ - لقد امضيت وقتا طويلا في البحر وكنت افكر الآن كيف تسنى لك ان تجمع كل هذه الخبرة عن النباتات وعن المحاصيل مثل السكر وغيره, مما رأيته في مستعمرتك؟ وابتسم قائلا : - لم يمض علي وقت طويل في البحر حتى اكتشفت القارءة. وربما كان ذلك بسبب الوقت الطويل الذي يجده الانسان عندما لا يستطيع ان يرى أي اثر للأرض. ولقد اصبحت هاويا للزراعه وللبستنه والجيلوجيا. بل اصبح كل شيء يرتبط بالارض يستهويني. ولذلك فعندما قررت ان اشتري المستعمره لم يزد الامر بالنسبة الي عن توظيف ماتعلمته بنفسي مع شيء من التفكير بالاضافه الى بعض المحاولة والخطأ. حتى وصلت الى ما انا عليه . - اليست الفلاحه عملا صعبا ؟ وضحك وقال: - ولكن الا تثقين في قدرتي على الاعمال الصعبة ؟! وابتسمت بطريقه خبيثه وقالت : - لقد تذكرت اول مره تقابلنا فيها واخبرتني انك ممن يتحمسون بشكل كبير لفلسفة اللامبالاة التي يعتنقها الكاجون. - ان لها مزايا, فبعض الناس يأخذون الحياة بطريقة جدية اكثر مما ينبغي. والتوصل الى المتوسط في الامور يكون صعبا في بعض الاحيان انني اعجب بحماستهم وتقبلهم للأمور التي لا يستطيعون تغيرها . - لقد نسيت خيالهم, وقد قصصت علي حكاية جراد البحر . واومأ ستيف موافقا وقال : - ان لهم قصصا خيالية اخرى كثيرة لا تقل شاعرية وعلى سبيل المثال هناك قصة عن ماري انطوانيت بعدما قتلت على المفصلة, كان ابنها الدوفين وريثها على العرش قد تم تهريبه الى خارج فرنسا بواسطة انصار الملكية من سكان لويزيانا واستقر بهم في النهاية في الولايات المتحده واصبح مواطنيها الذائعي الصيت . وخمنت قائلة : - جان لافيت على ما اظن ؟ - لا وانما جون جيمس أوديون. رسام الطيور المشهور . ولهثت جولي قائلة : - الم يكن ذلك ابنا بالتبني ؟ يذكر التاريخ انه ولد من زوج غير شرعي رغم ان اباه قد تبناه قانونا ولكن الاكاديون يقولون انها قصه مختلفة لحماية الدوفين من انتقام الثوار . ونفض ستيف الغبار عن سيكارته وتابع : - انهم يقنعونك بأن السجلات التي تقر بوجود اوديون قبل اختفاء الدوفين هي مزورة كليا لإخفاء شخصيته الحقيقية حتى لا تعرف . كانت اصابعها تتجول حول فنجان القهوة وقالت : - انه من نوع الاثارة لو كانت قصه حقيقية . وعندما ساد الصمت المائده وعاودت جولي التحديق في فنجانها سألها : - فيم تفكرين الآن ؟ كان هناك شيء من الخبث في الابتسامة التي ارتسمت على فمها وقالت : - كان هذا اليوم شيئا اكثر احب ان اعيشه دائما . - ورفيقك في هذا اليوم هل كان هو الاخر شيئا اكثر كذلك ؟ كانت سحابه من دخان السيجاره غطت ملامحه بحيث لم يكن في وسعها ان ترى وجهه بوضوح . وقالت بهدف اغاظته: - ذلك البربري ! في امكانه ان تطلق عليه ذلك . وابتسم ابتسامه عريضه وسحق سيكارته في المنفضه قبل ان تحمل نظرته لهيب شوقه اليها عبر المائده التي تفصل بينهما وقال : - من حسن حظك اننا في مطعم عام وان هناك مائده تفصل بيننا . وتقوس فمه داعما التهديد الساخر الذي كان ينطق به . واسرعت دقات قلبها وهي تتخيل ستيف يمطرها بالعناق ومد يده لتحكم القبض على اصابعها التي كانت تعبث بفنجان القهوة الفارغ. واحست من خلال قبضته الرقيقة التي كانت تجمع بين الخشونة والعناق في آن واحد بتيار كهربائي عال ينطق خلالها مشعلا طاقه مختزنه في داخلها وهو يقول : - هل قلت لك اليوم كم تبدين جميلة ؟! وعلقت وهي تضحك: - بما فيّ من نمش وسواه ؟ كانت مقتنعه بأنها جذابه الى درجه عاليه لا تستحق ذلك الاطراء الكبير . - لقد رأيت العديد من النساء الجميلات ممن لهن نمش ولا استطيع ان اعفيك من الاطراء الذي اوجهه اليك بصدق كامل, انني احسد الشمس التي طبعت على وجهك تلك القبلات العديده وجعلتك دائما تشرقين في هذا القدر من الاشعاع . - وهل في وسع أي فتاه ان تعرض نفسها للشمس لتحظي بمثل هذا الاطراء؟! وهزت رأسها لتتحرر من سحره الذي كان يسيطر على كل حركة وسكنه منها وسحب يده برفق وهو يقول : - اراك تجدين ان تغير الموضوع هو انسب رد . واشار الى فتاة المطعم لتحضر قائمة الحساب وسألته : - ماذا تعني ؟ - اعني ان عليّ دائكا ان اطفئ النيران التي تشعلينها وكأنك لاتحسين ما بي ! وكانت نظرته تشعل النار فيها. وتتركها وهي تعرف تماما ماكان يعنيه .
11- المنعطف ...
عندما طلب ستيف جولي في اليوم التالي كانت قد غادرت المنزل منذ وقت قصير لقضاء بعض الحاجيات الشخصية في المدينة. فترك لها رساله لدى السيده لوبلان بأنه سيعاود الاتصال تلك الليله. واسفت جولي كثيرا لعدم وجودها وتلقي الرسالة بنفسها. ولكن كان عزائها ان الامل ما زال قائما وان كلفها الانتظار يوما كاملا . كانت لا تزال بحاجه الى ان تتخذ قرارا فيما تعمله طوال اليوم, ولم يكن من دأبهاان تقبل بسهوله الجلوس بلا عمل . وبدا لها ان اسلم طريقة لقضاء الوقت حتى يحين المساء ان تشغل نفسها بالسياحه رغم ان الفكرة لم تكن مثيرة . وكان هناك مكان قريب لم تزره بعد وهو حدائق رب فان وتكل في غرب ايبيريا . كانت الحدائق الغناء على الكراز الانكليزي تبدو بارده اذا قورنت بحدائق الغابة في جزيرة افري. ولكنها كانت هنا من دون رفيقها .وتأكدت ان لذلك دخلا كبيرا في نقص حماستها . ونظرا الى شدة الحرارة والرطوبة قررت ان تتناول شرابا باردا في رحلة العوده وهي تخترق مدينة تيوابيريا . وتبينت انها بمحض الصدفة أو بايحاء لا شعوري جعلت سيارتها الفولكس واغن تنتظر قريبا من المتجر الذي طلب منه ستيف شراء القماش اللازم لتنجيد الاريكة والكراسي . ودخلت جولي المتجر استجابة لدافع ساذج. وتعرف عليها فورا البائع الذي قام بخدمتها في المره السابقه وأوضح لها ان الطرود وصلت منذ قليل في ذلك الصباح وعبر عن سعادته لمجيئها في الوقت الذي كان يعتزم الاتصال بالسيد كاميرون. وعرض عليها ان تأخذ القماش معها فقد دفع ثمنه من قبل . وترددت بعض الشيء خشية ألا يرتاح ستيف الى ذلك التصرف . واحتاج الامر الى بعض الجهد لإدخال القماش بحجمه الكبير داخل السيارة. وتبين لجولي بعد ذلك وهي تحتسي عصير الليمون في احد المطاعم انها ضيعت وقتا كبيرا في متجر القماش . وعادت الى السيارة وهي ترجو الا تكون سببا في تأخير موعد العشاء لأسرة لوبلان كما حدث في الليلة السابقة عندما تأخرت هي وغي . ووصلت جولي بالفعل في وقت يسبق موعد الطعام بكثير وعرفت ان ستيف طلبها قبل ان تصل واحست بشي من الاحباط والغضب من نفسها لأنها تغيبت ذلك الوقت الطويل في الخارج ولم تجد لديها شهية للطعام . وبدأت تتساءل: هل يخطر لستيف مثلا انها كانت تقصد مضايقته ؟ لم يذكر ستيف في المره الاخيرة انه سيعاود الاتصال بها . ماذا يحدث لو انه لم يتصل ؟ واخذت تعاون السيدة لوبلان في حمل الطعام الى المائده وهي تندب سلوكها الذي جعل المكالمة تفوتها . وفكرت في الاتصال به لكن الهاتف موصل رديء احيانا. وقررت ان تقود سيارتها الى كاميرون هول تلك الليلة ذاتها مهما بدا لك تصرفا جريئا خاصة انها خارجه وسوف تعود في وقت متقدم من المساء. وكان الغسق قد استسلم الى حلول الليل عندما جلست وراء عجلة قيادة سيارتها, ولمحت ميشيل عائدة بسيارتها من المدرسة حيث احضرت بعض الاوراق التي نسيتها هناك واضطرت جولي الى التريث حتى تقف سيارة ميشيل فيمكان الانتظار ويخلو لها الطريق للخروج . وصاحت ميشيل تسألها : - هل تعتزمين الخروج ؟ واجابت دون ان تعطي مزيدا من الايضاح : - نعم . ولوحت ميشيل قائلة : - احترسي فالضباب كثيف الليلة . تركت جولي مدينة سانت مانت رفيل واتخذت طريقها خلال الريف , وتبينت انها لم تع تعليق ميشيل حول الضباب ما يستحقه من اهتمام. فقد كان الضباب يلتف حولها بشكل كثيف لدرجة انها اضطرت الى خفض السرعه ادنى حد ممكن , وعجزت الاصوات العاليه في السيارة حتى عن ان تمكناه من رؤية المستنقع الممتد على طول الطريق بشكل واضح . بل لم تستطع تلك الاضواء ان تكشف الرؤية لأكثر من اقدام قليلة امامها.وتكاثفت الرطوبة على الحاجب الزجاجي لتزيد من صعوبة الرؤية. واعتمدت على غريزتها في التعرف على تقاطع الطرق والطريق المؤدي بها الى الحاره الترابيه المؤدية بدورها الى المستعمره . كان الوقت يمر ثقيلا شأنه شأن الفولكس واغن ذاتها على مدى الطريق تصورت جولي انها ضلت الطريق وبدأ الالم في اصابعها من طول ماكانت تضغط بها على عجلة القياده. وشعرت بضربات الصداع في مؤخرة رقبتها وبالام في عينيها من كثرة التحديق في الحجب الرمادي الي كان يحيط بها . واحست بصيحة يأس تحتبس في حلقها وظنت انها ضلت الطريق بالفعل عندما لمعت لا فته بيضاء صغيرة قرب حافة الطريق كان من الصعب قراءة ما كتب عليها بسبب الضباب المتكاثف حولها. واوقفت السيارة تماما : وترجلت منها تاركة محركها يدور. ونظرت الى اللافته عن كثب ووجدت العبارة: طريق خاص ... ممنوع التجاوز . كانت العبارة تعلن عدم الترحيب ومع ذلك احست ازاءها بالاطمئنان. لقد نجحت بمعجزة في الوصول . ورغم ذلك كان امامها ربع ميل الى المستعمره. وغدت المشكله انها كلما اقتربت من المستعمره ومن الرافد على الجانب المقابل زادت كثافة الضباب. ولم يكن هناك امل في ان ترى المدخل ببواباته الحديدية. واضطرت الى ان تخمن المسافة وان تكتشف المدخل سيرا على الاقدام معتمده على كشاف ضوئي كان معها . ولم تخط اربع خطوات من السيارة حتى تبينت شكله الغريب المستدير وساعدها لونه الاحمر في الوصول اليه . وخطت الى الامام خطوتين وتنشقت .... أنفاسها بعمق وقد أطبق الضباب كليا على السيارة وأسدل فوقها ستارا يحجبها عن الرؤية . وأخذت تشق طريقها في بطء شديد على طول المستتنقع تبحث عن القنطرة المؤدية الى البوابات وهي تحاول أن تخلص نفسها من الأفكار المقلقة خشية أن تضل الطريق الى تلك السحابة السوداء الرمادية . وكادت تضل الطريق الى البوابات في ذلك الظلام الكثيف الضباب ووجدتها مغلقة ولم يكن شعاع الكشاف الضوئي يذهب الى أبعد من البوابات الحديدية بمسافة كبيرة بسبب الضباب ، ووضعت يديها على القضبان الحديدية الباردة الرطبة في شئ من التردد ، وبدات تهزها لتستطلع مدى احكامها . وبدا الجرس المتدلي من العمود وكانه أخرس بلا رنين ، ومع ذلك وقفت تنتظر الأسود الألماني في ذلك الطقس ، ولكن حتى ذلك الكلب لم يخرج للترحيب بها . كان من السهل أن تتسلق البوابة وبدت الأشجار و الشجيرات على الجانب الآخر بشكل ينذر بالسوء على جانبي الطريق الضيق . وخشيت أن يثب الكلب في أي لحظة بأنيابه البيضاء التي تلمع في الظلام . ولم يكشف الضوء الصادر عن الكشاف الذي كان معها سوى أغصان البلوط الضخمة و الطحالب الاسبانية التي كانت تتخذ أشكال ظلال كثيفة . وبدأ ضوء خافت يتراءي لها من الغارسونييرة وزاد توتر اعصابها عندما جاء من الردهة الضيقة صوت نباح كلب خفيف . و تبينت جولي ان الصوت كان أنيا من الباب الداخلي . ووقف الكلب أمامه كأنه يحرسه وصاحت تنادي : " ستيف !" وزمجر الكلب كأنه قد يجيب ولكنه م يتحرك نحوها . وكررت النداء ، وجاء جرس صوتها غريبا في أكناف الصمت وخطر لها انه لو كان ستيف في الغرسونيرة لسمع صوتها بالتأكيد . وبدا الكلب قد انس اليها لأنه لم يبد أي اعتراض عندما بدأت تخطو بأتجاه الداخل وكانت لا تزال تتردد في السير امامه نحو الباب وخاطبته قائلة : - اين سيدك يابلاك ؟ بدأ الكلب يهز ذيله تعبيرا عن الود وخطت جولي خطوة جريئة نحو الباب ولكن الكلب سرعان ما اطلب زمجرة تنبئ عن التهديد. وتوقفت جولي واخذ الكلب يهز ذيله من جديد وكأنه قد حدد لها نطاق حركتها فسمح لها بالوقوف في الردهة انا الغاروسييرة فلم يسمح لها بالدخول اليها ولم تحاول ان تقنعه بالسماح لها اكثر من ذلك . - هل بامكاني ان انتظر ستيف هنا ؟ كان من العبث ان تسأل الكلب وهو لا يستطيع ان يجيب ولكن اعصابها المتوترة بسبب الضباب والسكون جعلتها تفعل ذلك. واحست بشيء من الاتياح وهي تسمع صوتها وان هناك من تتحادث معه. كانت الرطوبة الساخنة قد بدأت تخترق ثيابها وبدأت تحس بالآلم في عظامها وشعرت برجفة واخذت تدلك ذراعيها بقوة وهي تنظر في قلق وخوف حولها . لم يكن هناك اثر لستيف وبدت فكرة العودة الى السيارة والرجوع بها الى بيت لوبلان في ذلك الضباب شيئا مفزعا . وجاء صوت ستيف من الطرف البعيد للردهة الصيقة في شيء من التأنيب يقول : - ماذا تفعلين هنا ؟ وجاء ردها مضطربا : - لقد جئت لأراك وكدت اقنع بأنك لست هنا . واقترب منها والغضب يتطاير من عينيه لقد توقعت منه ان يعبر في دهشة او عن فرحة بها وكان اخر ما توقعته ان تراه غاضبا , وقالت : - لقد وصل قماش تنجيد الاريكة والكراسي اليوم. كنت في نيوايريا وتوقفت هناك. ولقد تركت القماش في السيارة لم اكن مرتبطة بشيء الليلة وفكرت ان احضر القماش . وسألها : - كيف وصلت الى هنا ؟ واجابت في وهن وهي تستسلم لنظرته المحدقة في استغراب : - لقد حظرت بسيارتي لم اكن اتوقع ان يكون الضباب بهذا السوء حتى خرجت من المدينة . واخذت ترتعد مرة ثانية ولم يكن ذلك بسبب البرد فقط وواصلت تقول : - كنت قد وصلت الى هنا بالفعل والا لكنت رجعت. اكاد احس ان الرطوبة سرت اليك كذلك . - ولماذا لم تدخلي الى البيت حيث الدفء ؟ - لم يسمح لي كلبك بتخطي المدخل . قالت ذلك وهي تحس بشيء من الضيق لسلوكة الغريب تجاهها. ونظر ستيف الى الكلب الذي يجلس في الخارج كما لو كان قد نسي انه ينثني قليلا من الرطوبة. وامرها في حدة وهو يشير الى المدفأة : - اجلسي الى جانب النار حتى احضر سيارتي البيك اب فلها مصابيح خاصة للضباب. اما عن سيارتك فسأحضرها لك صباح الغد . - اشكرك على سرورك الزائد لرؤيتي . قالتها في سخرية وهو يتجه الى الباب, وكان اسفل ذقنها يرتعد بينما كانت الدموع تلتهب بين مقلتيها وحدق فيها قائلا : - ماذا تعنين ؟ - انها لوعتي . اقود السيارة طوال الكريق حتى اصل الى هنا ولا اجد منك حتى كلمة ترحيب او مجرد استفسار عن حالي قبل ان تحزمي كبضاعه لتحملني الى البيت . - اذا كيف حالك ؟ كيف حالك مرة ثانية ايتها الغبية الصغيرة التي لا تحسن التفكير! ايتها المجنونة ! كانت تلاحظ بجسدها المرتجف وهو يتنشق انفاسه ليسيطر على غضبه . واخذ ينظر اليها في صمت ويداه على مؤخرة ظهره. وهمست قائلة وهي تعجز عن مواجهة عينيه التين تشيران اليها بالاتهام: - اكاد لا افهم ! واجاب في كآبة : وأحست جولي بأنها تتضاءل أمامه وقالت : " ولا واحدة " " ذلك لأن أي شخص لديه ذرة من العقل لايمكن أن يخرج في مثل هذا الضباب " " ولكن ميشيل كانت عائدة من الخارج عندما اتخذت وجهتي الى هنا ولم يكن يبدو عليها القلق " " لأنك لم تخبريها عن وجهتك . هل قلت لها انك آتية الى هنا ؟ لو أنك فعلت ذلك لحذرتك من القدوم " " ولكنها لم تحذرني . وها إنني هنا ، ، ولا ينبغي أن تعاملني بهذه الوحشيه " " كان من الممكن أن تنقلب سيارتك في مستنقع أو تصطدم بأحد أعمدة الهاتف و تتهشم . ماذا تنتظرين متي ازاء ذلك ؟ " وهمست قائلة : " لم أكن اظن انك تهتم بي الى هذا الحد " وقطع ستيف المسافة بينه و بينها في سرعة خاطفة و امتدت أصابعه لتنشب في عظام ذراعيها ورفعها الى اعلى وهو يتمتم : " أهتم ؟! " و احتسبت كلماته في شعرها البني المسدل على فمه و اعترضت في وهن قائلة : " انك تؤذيني " كان اقترابه منها قد أفقدها الاحساس بالالم حيث كانت أصابعه تضغط على بشرتها .منتديات ليلاس " انك تستحقين ذلك ، وأقل ما يمكنني أن أفعله هو أثني جسدك على ركبتي أو اخذك بين ذراعي " وحدقت جولي في وجهه وقالت : " اذا كان شعورك فلماذا اذن تريدني أن اعود ؟ " " هل تفضلين البقاء هنا حتي ينقشع الضباب ؟ سوف تظل الحال كذلك حتي الصباح الغذ على الاقل " " كلا لا أستطيع . فقد أحسست بأنني لم أرك منذ مدة طويلة . وفأنني مكالمتك هذا الصباح ، ثم مرة ثانية في فترة ما بعد الظهيرة . كنت أريد أن أراك ققط " " وكنت أنا أيضا أريد ان اراك ولكن ليس هنا " " ولكن ما الفرق ؟ " " اذا كنت تريدين أن اشرح لك فهذا يعني أنك أكثر سذاجة بكثير مما كنت اظن " " إنني لا أستطيع ان أتحمل مشاعري تجاهك ! " " إنك تقولين كلاما لا معني له يا جولي " " إنني أتحدث الى أنسان متحجر . هذا هو كل شيء " و قبل ان تجد الفرصة للأعتذار عما بدا منها وجدت نفسها بين ذراعيه وهو يقول : " ليتني كنت متحجرا " وضمها طويلا اليه . وحملها بين ذراعيه ولم تكن تتبين الى أين يأخذها . وتغير وقع خطواته و أدركت بعد لحظة أنه يصعد بها الدرج ، فدفعته بقوة بعيدا عنها وهي تقول : " الى أين تاخذني ؟ أتركني ...... أتركني " وخفضت قبضته الوحشيه صوتها الواهن وهى تلتمس منه أن يتركها دون جدوى . لكنه مالبث أن أعادها الى وضعها واقفة على قدميها . كان ضوء الدرج الخافت يرسل بعض أشعته على الحجرة التي كانا يقفان فيها ، و استطاعت ان تتبين أنها كانت حجرة نومه . وتنهد ستيف في نعومة وقال : " أريدك يا جولي . لا استطيع أن أنكر ذلك " " لماذا " " لأنك امرأة وأنا رجل . هل تريدين شيئا اقوى من ذلك ؟! " وأجابت جولي في بطء وحزم بعدما رفعت رأسها الى أعلى لتتفحص ملامحه المقنعة ، وعلى وجهها بدت نظرات حبها الحقيقي له : " نعم يا ستيف يوجد أقوى من ذلك " " أنك تقولين ذلك لأنك مازلت شابة صغيرة ، ولكنك لم تجربي كيف يتقلب لانسان " " هل أنت متقلب ؟ و هل تعتزم أن تنساني ؟ " " لا أقول أنني كذلك تماما لأنك شخصية مميزة طبيعة وسخية " " أظن أن من واجبي أن اشكرك على هذا المديح " " لم أقصد أبدأ أن أؤذيك يا جولي . أنني سأخدك الى بيتك الآن " " لا تأسف يا ستيف . لقد اخبرتني الخاله بريجيت ذات مرة أن الحب الحقيقي شيء نادر ، وقليلون هم الذين يعثرون عليه لأن معظم الناس أنانيون لا يستطيعون ان يعطوا من أنفسهم الإ بطريقة مصطنعة " وسألها في برود : " هل تعتقدين أنني واحد من هؤلاء ؟ " واعترفت جولي في قرارة نفسها أنه لم يكن واحدا من هؤلاء بالرغم من ان أقواله وتصرفاته تؤكد ذلك . بدا الاضطراب واضحا على وجهها ، وسألته وهي لا تدري انها كانت تتكلم في لهجة استعطاف : " قل لي ... لماذا عاملتني بالطريقة التي تصرفت بها الآن كما لوكنت غانية أو شيئا من هذا القبيل ؟! " " تريدين الحقيقة ؟ لأنك كنت تطلبين ذلك بسذاجة " وصاحت في غضب : " لم اطلب ذلك " كانت على وشك ان ترفع يدها لتصفعه ، ولكنه كيل معصميها ليمنع مثل ذلك الهجوم . " لم تطلبيه بطريقة شعورية " " اذا لماذا حاولت ان تستغلني ؟ " " استغلك ؟ ! يا لها من كلمة قديمة لا تستخدمها الأ المتخلفون " وهزت رأسها في حيرة وقالت : " أكاد لا أفهمك . تتصرف في وقت وكأنك تهتم بي وفي لحظة أخرى تبدو وكأنك بلا احساس ولا عاطفة تجاهي " و انضمت شفتاه في خط مقطب وهو يحدق فيها دون أن يجيب . ولمحت عيناه تضيقان ولاحظت مرة أخرى كم كانت رموشه طويلة وكثيفة . وظل يحدق بطريقة ناعسة من خلال نظرات عميقة وقال : " ليس هذا الوقت ولا المكان للحوار الذي تريدين أن تجربه " و سار أمامها نحو الدرج ، وعندما وصل الى منتصف الدرج نظر اليها وقال : " هيا سأوصلك الى البيت " وترددت جولي بعض الشيء اذ خطرت لها فكرة أخرى ، وقالت في صوت مضطرب : " ستيف ... هل تستغلي لتنسي ... لتنسي كلودين ؟ " وقطب قائل : " ما الذي وضع هذه الفكرة في رأسك ؟ " " لقد سمعت ......... " ثم توقفت وهي تعرف أن أي ذكر لأسم غي سوف يجعله يعلق بطريقة ساخرة واصلت قائلة : " سمعت ان الرجال يبحثون أحيانا عن نساء أخريات لينسوا أمرأة معينة " سألها في هدوء مشوب بالانذار : " أتريدين أن أحملك مرة اخرى لأهبط بك الدرج ؟ " وألحت في السؤال : " هل صحيح . فانه لشيء مجد ولكنه لا ينطبق على هذه الحالة ، على الرغم أن الاحتمال المضاد قائم " " هل تعني انك تريد ان تنساني ؟ " وتنشقت جولي انفاسها فيما شعاع من الأمل يضيء عينيها وتابع قائلا :" وخاصة عندما تختبرين صبري كما تفعلين الآن . لأخر مرة ..... سأوصلك الى المنزل .... هيا ..... اهبطي ! " وشعر ستيف أنه ازاء حالة من الحالات الاكتئاب الغريبة . كانت جولي تتذكر في سرعة ما صاحب تلك اللحظات الانفعالية التي وقعت بينهما قبيل ذلك الوقت قصير لدرجة أنها كانت نصر على مزيد من الحديث حولها . بينما أوضح لها أنه يريد أن تستعيدها . وكانت مشاعرها تجاهه مختلفة لدرجة أنها لم تكن واثقة من حقيقة تلك المشاعر . لم يكن بالفعل تعرف حقيقتها ، بل زاد شكلها . كان شيئا معقدا لا يمكن يخبرتها المحددة أن تستطيع كنهه ، و ادركت أنه كان يعرف ذلك أيضا . و تمكنت مصابيح الاضاءة في السيارة البيك أب ان تكشف الرؤية بطريقة أفضل ، وكانت السرعة التي يسير بها أبطاء من المعتاد ولكنها كانت أسرع مما كانت تقود به جولي سيارتها ي رحلة العالم . كان ستيف يوليها كل اهتمامه ولكنها بدت وهي تجلس على الكرسي المجاور له جسما بلا حراك . وعندما توقفت السيارة أمام بيت لوبلان ترك ستيف المحرك دائرا ليوحى لها أنه لامكان للوداع العلويل . وقال لها : " سأحضر سيارتك في الصباح وقد تكون ذلك قبل أن تستيقظي من النوم " كانت كلماته الخشنة تدل على انه يستعجل الآنصراف . ومدت جولي يدها الى مقبض الباب ، ووجدت يده تمتد الى ذراعها لتستبقها وهو يقول : " يجب أن أذهب الى نيوأورليانز غذا لقضاء عمل ، وسأبقى هناك أياما " وسألته وهي تعرف أن نغمة صوتها كانت تعكس المشاركة : " ماذا تريدي ان تقول لي ؟ " ولكن برود ستيف كان قد ساءها وارادت ان ترد عليه . بالطريقة ذاتها . و اكتفي ستيف بأن اصطنع تنهيدة غاضبة ومد يده ليفتح الباب وهو يقول : " لا أدري ... طاب مساؤك يا جولي "
الفصل الثاني عشر
كان العذاب
" أين كنت ؟ " كانت جولي قد أسرعت الى داخل المنزل و صعدت الى قرب منتصف الدرج عندما فاجأها سؤال كلودين وجعلها تتوقف فجأة . كان كل ما يريده أن تلوذ بحجرتها لتذرف الدموع التي تحرق مقلتيها . وأجابت : " في مهمة .. ماذا كان امرا يعنيك ! " وسخرت كلودين قائلة : "لابد أنها كانت مهمة مناسبة مكنتك من جعل ستيف يعيدك الى هنا " كانت جولي على وشك ان تكمل صعود الدرج ، ولكن الفتاة ذات الشعر الأسود في لون الغراب ، واصلت وعينناها تلمعان مثل الفحم المتقد : " من المؤسف أنك لم توجهي اليه الدعوة للدخول . كان يودي أن تحدث اليه في أمر ما . ولكن يبدو أن ذلك سوف يتاجل الى الغد " " سيكون عليك الانتظار مدة اطول " أجابت جولي بطريقة تشبه الطريقة التي بها كلودين ، رغم أنها لم تكن قادرة على مواجهة عينى المرأة الأكبر سنا وواصلت : " إن ستيف ذاهب إذا الى نيوأورليايز وسيمكث هناك حوالي يومين " وانطلقت جولي تصعد الدرج بينما واصلت كلودين تقول : " يالحسن الحظ ! " كانت رقة العبارة الى اطلقتها أكثر إغاظة من ألفاظ السخرية التي تحديث بها فيما سبق . كانت الفولكس واغن الحمراء تقف في مكانها السابق خلف المنزل في الصباح التالي عندما هضت جولي من الفراش وكانت قد نامت نوما متقطعا وبدا ذلك في النظرة المقطبة على وجهها وفي الدوائر السوداء تحت عينيها . فكم حاولت أن تجعل نفسها تدرك كيف تصرفت بطريقة غير منطقية ، ولكن لم يكن في قلبها مكان للمنطق . كان هناك ستيف فقط وحاولت أن تلوم نفسها لأنها عرفته مدة لا تقل عن أسوعين ولكن كم من عاشقين وقعا في الحب ساعات قليلة ، ولم يكن حبهما أقل قوة أو اقل دواما . وتساءلت عما يشدها اليه : هل الجاذبيه الجسدية أم الافتتان أم الاعجاب برجل أكبر سنا وأكثر خبرة ؟ لعل كل صفة من هذه جميعا ، تماما كما عرفت من قبل انها لم تحب جون بالطريقة التي ينبغي ان تحب بها المرأة زوجها . لو انها فقط فهمت ستيف ! كانت تحس بيه و هو مشدود ا اليها وهو يعانقها ، بل لعلها أحست بشي اكبر من ذلك ، ربما كان يحبها بالفعل ، ولكنه زئبقية يعلن أنه لا يؤمن بالحب و انه لن يتزوج ابدا . هل كان يخشى الحب ؟ لو يكن تصدق أن ستيف يمكن ان يخشى شيئا وعلى الاخص ما لايؤدي مثل الحب . لايؤدي تلك أضحوكة . لتنظر ماذا يفعل بها . لقد تلتوى الى عقد تحتاج الى بحار خبير ليحلها . كان ستيف بحارا ! هل خطر لها هذا التشابه لأن ستيف كان سبب عذابها . وبدا الموقف كله يائسا في نظرها . وطال اليوم في غيبة ستيف الذي كان في نيوأورلياتز . وأحست بفراغ يكاد لا يصدق . وحتي لو كان هنا فلم يكن ذلك ليغير شيئا من الاحباط الذي تحس به . وتذكرت جولي المأساة التي كانت تعيشها قبل ان تحضر الى لويزيانا . وبدت تلك المشكلة صغيرة الان امام حبها الأزلي لستيف . كانت جولي تعرف انها لا يمكن أن تبقي حبيسة المنزل طول النهار ، وقد أبدت السيدة لوبلان اهتماما بألكابة البادية على وجهها وهي تتناول طعام لافطار . ولم تكن تحس برغبة جادة في زيارة أي بقعة من المناطق السياحية ، وتركز اهتمامها في شيئ واحد أردات ان تنجزه وهو أن تلتقط مجموعة من الصور لكاميرون هول حتي اذا عادت الى داكوتا الجنوبية استطاعت ان تعرض على الأسرة صورا عن بيت أسلافهم . ولكن ان تعود الى مسقط راسها ولاترى ستيف ثانية جعلها تهوى الى أعماق من الأسى مرة أخرى و أخذت تتجول في الأراضي المستعمرة وكلب الرعي الألماني اليقظ دائما يسير في أعماقها . ولكن ذلك لم ينجح في رفع معنوياتها . كان ذلك رمزا للنهاية وهي تلتقط الصور كما لو كانت سترحل في اليوم التالي بينما كان لايزال امامها أسبوع من أجارتها لم يبدأ بعد . وكانت تعرف كذلك أنها لن تستطيع ان تنظر الى الصور دون أن تفكر في مالك المستعمرة الحالي ، ودون أن تتخيل منظره ووراءه زهور الأراليا الحمراء في لون اللهيب والاعمدة الضخمة المستديرة . وعادت جولي الى بيت آل لوبلان في وقت متقدم بعد ظهيرة ذلك اليوم . وكان وصولها في الوقت الذي رجعت فيه ميشيل وغي . ورغم انها كانت تحس بالحاجة الى الاسترخاء في حنجرتها فقد احست أنه لا يليق ترك ميشيل وغي حدهما وجهت اليها دعوة ودية للمشاركة ي احتساء شراب مثلج . ولسوء الحظ اضطرت ميشيل الى الانسحاب لتجيب على مكالمة هاتفية وبقيت جولي وغي وحدهما . رغم حرصها لى تجنب ذلك . و نظرت اليها غي في ابتسامة قصد بها اللهو من جهة و التمويه عليها من جهة أخرى : قال : " لا تبتشي يا جولي ! " وسألته في عنف : " ماذا تعني ؟ " " أرى وجهك يكتسى باكتئاب مستمر وكأنك لم تسمعي من قبل تحذيرا بأن هذا قد يحدث ! " " لا أستطيع أن أفهم ما تعنيه . ما الذي يمكن أن يحدث ؟ " ونهضت على قدميها في تأهب للدفاع عن النفس . و اتجهت لتطل من النافذة ولم يكن ترى العصفور الأحمر لمغرد يرفرف بجناحيه حول شجرة المجنوليا . " كلودين وستيف الطبع ! " وقالت بلا شعور : " ستيف في نيوأورليانز .. أليس كذلك ؟ " وهز رأسه في حيرة وقال : " إنك حقا لا تعرفين ... هل تعرفين ؟ " وأحست بهاجس غريب يتسلل الى صدرها وسألت : " أعرف ماذا ؟ ؟ " " لقد ذهبت كلودين مع ستيف الى نيوأورليانز " " لا ! " وشهقت نفسا واخذت تهز رأسها في شك وهي تقول : " لا . هذا غير صحيح " وحاصر حلقها بكاء هستيري كتمته جولي بيد منقبضة وضعها على فمها لقد فهمت الآن الاسباب التي وراء ما قاله ستيف الليلة السابقة . كان يحاولبلباقة أن يخبرها أنه لا يجعلها تدرك أن مشاعره ليست بالدرجة ذاته . بل لقد ألمح الى أنه قد يستخدم كلودين لينسى جولي و كأنه يهيؤها للخبر الذي ألقى به غي الآن . كان غي قد اقتراب خلفها ووضع يديه برقة على كتفيها وهو يقول : " إنك وقعت في حبه حقا ....أليس كذلك ؟ " لم يكن جولي تثق في مقدرتها على الكلام دون أن تتهدج صوتها بالبكاء ، واكتفت بان أومات بالموافقة وواصل يقول : " أنت أيتها المجنونة الصغيرة " وراح يهزها قبل أن يحتويها بين ذراعيه وتابع : " لقد أخبرتك أن كلودين سوف تنتصر " وأجابت جولي بصوت مرتجف بعدما رفعت اليه عينيها الملليئتين بالدموع : " إنها لم ينتصر ! الأ تفهم ؟ إن ستيف يهتم بأي منا . حاول أن تقول لي ذلك الليلة الماضية " " هل رأيته الليلة الماضية " " نعم رأيتة فترة وجيزة ." لم تكن جولي لتخبر غي أن ستيف حاول أن يغتصبها . وواصلت : " ماذا أفعل يا غي ؟ لا أستطيع أن اواجهه مرة أخرى . لا استطيع " وعلق غي وهو يضغط على اسنانه : " لم يكن من حقه أن يلهو بك " " لم يعد ناك وقت لتفكير في ذلك الآن . فضلا عن انها ليست غلطة ستيف . إنني وثقت به " وأضافت في زاوية بعدما زال أثر الصدمة الأولي : " أعتقد ان الوقت حان لكي أعود " " الى داكوتا الجنوبية ؟ " " نعم ، لقد اتنهيت من المشكلة هناك لأقع في مشكلة أخرى هنا " ومسحت الدموع عن عينيها و رفعت كتفيها وتابعت تقول : " لقد كان التغير هو العلاج انذاك ، واعتقد أنه العلاج القعال الان " " ولكن مازال أمامك أسبوع آخر وفقا للبرنامج ولقد أخبرت أمي بذلك " " أعرف خطتي . ولكن اعتقد من الأفضل ان اعدل هذه الخطة الآن " وفي المساء على مائدة العشاء . أعلنت جولي لأسرة لوبلان عن اعتزامها الرحيل . و انتحلت عذرا لذلك انها تلقت خطابا من والديها ينبئانها عن مرض احدى قريباتها رغم أن لذلك لم يكن صحيحا مما جعلها تتخذ قرارها المفاجئ ورأت انها اذا حزمت أمتعتها الليلة وحملتها الى السيارة في الصباح فسوف يكون بامكانها أن تتخذ طريقها طريق العودة قبل رجوع ستيف وكلودين من نيوأورليانز . ولم تكن جولي وضعت في تقديرها حسابا للأعتراضات التي أثارها أميل لوبلان الذي صمم على انها تبغي ألا تبدا الرحلة الطويلة دون أن يتم فحص سيارتها في أحد الكاراجات المحلية . وحاولت يائسة أن تقنعه بانها سبق ان فعلت ذلك بعناية قبل رحلة القدوم من داكوتا الجنوبية ، و انه لا داعي اطلاقا لتكراره ثانية . ولكنه كان صلبا عنيدا وصمم على ان جولي التي أصبحت مثابة عضو في اسرته خلال إقامتها القصيرة ، ينبغي ألا تقوم بتلك الرحلة الطويلة في ظل احتمال حدوث أي خلل آلي في سيارتها . وعززت السيدة لوبلان كلامه بأن الغذ يوم السبت وان عطلة الأسبوع ليست الوقت الملائم للقيادة ثانية ، ولكنها رفضت الانتظار حتى يوم الاثنين . وقررت أن تبدأ تبدأ رحلة العوده يوم الأحد بغض النظر عن ازدحام المرور . وعندما حان عصر السبت كانت جولي قد اتمت حزم أمتعتها وكانت على استعداد لوضعها في السيارة . وأوصلها غي بسيارته لى كاراج المحلي لتأخذ الفولكس واغن التي لم تحتج إلا لبعض الاصلاحات البسيطة . وحدقت جولي نحو الشاب الصغير الذي اصبح سندا لها في صمت وهي تدفع فاتورة اصلاح السيارة سألته في صوت هاديء : " متى تظن أنهما ستعودان ؟ " ولم تكن بحاجة الى أن توضح له أن من تقصدهما هما كلودين وستيف وأجاب : " أظن أنه لا يفضل القيادة في الظلام بسبب الضباب، و أعتقد أنهما قد يصلان في أي وقت من الآن حتى الغروب " وعندما عاد غي وجولي الى بيت لوبلان علما ان ستيف حضر منذ قليل لإيصال كلودين وقفل راجعا . و أحست الأتيارح لأنها لم تضطر الى مقابلته بالصدفة . وشعرت بتعاطف الاقدار معها لأنها كانت في الكاراج تتسلم سيارتها عندما خضر ، وبذلك وفر عليها مزيدا من الارتباك . حتى كلودين لم تكن موجودة . اذ كانت دخلت الحمام بعد رحلة في الجو الرطب الحار من نيوأورليانز . وأحست جولي بالسعادة لأنها لن تضطر الى مواجهة الابتسامة المصطنعة من الفتاة الاكبر . كانت جولي وغي في الخارج يرتبان الامتعة في الفولكس اغن الصغيرة عندما جاءت ميشيل الى الباب الخلفي و أخبرت جولي أنها مطلوية على الهاتف . وسألت جولي وهي تنظر في توجس الى غي : " من المتكلم ؟ " واجابت ميشيل : " لم اساله ، ولكنني اظن أنه ستيف " وتحدث اليها غي قائلا : " هل تريدين أن تقولي له أنك مشغولة ولا تستطيعين الحضور للرد على الهاتف ؟ " واستخدمت جولي الفرشاة في تمشيط شعرها وتنشقت نفسا عميقا وقالت " لا..... لن يحاول زن يثيني عن رأيي " كان صوت كلماتها يدل على شجاعة كبيرة ، ولكنها كانت تحس برغبة في الهرب وهي تمسك السماعة الموضوعة على المنضدة في الصالة . وحدثت نفسها : تشجعي ! ثم قالت في السماعة : " نعم ؟ " وكان في صوتها شيء من البرود وكأنه صوت من يتحدث حول العمل ، ولكن ركبتيها كانتا ترتعدان كأنهما خليط هلامي . " آلو ستيف يتكلم . لم يكن سيارتك هناك سيارتك عندما احضرت كلودين " وتعجبت جولي من طريقته اذ كيف يجرؤ على أن يتحدث بلا مبالاة . وأجابته بما لا يدل على شيء : " لقد سمعت انك رجعت من نيوأورليانز " " كانت هناك مباراة كرة القدم وكان المرورمزدحما ... وإلا عدنا في وقت مبكر " وأحست جولي أنه ليس في وسعها أن تحتمل ذلك الحديث فقالت : " إنني سعيدة لأنك اتصلت هاتفيا . وكان في نيتي أن أتصل بك فيما بعد لأخبرك اني عائدة غدا الى داكوتا الجنوبية " واجاب في صوت خفيض لم تكد تسمعه :" ماذا ؟ " " نعم ، إن إحدى خالاتي في المستشفي وقد كتب لي أهلي يقترحون عودتي ولقد حدث ذلك فجاة على ما أعتقد ، وهي تحتاج الى هذه العملية " وخطر لها أنها تكرر الكلام وكأنها تحاول أن تقنعه بصحة أسباب عودتها . وعلق في جفاف : "ولكن ذلك جاء بطريقة مفاجئة للغاية " " نعم . حسنا . لقد أردات أن اقول أن أرحل . وهذا هو السبب الذي كنت ساطلبك من أجله فيما بعد " و تحدث في بطء وبوضوح تام : " أريد أن أتحدث اليك يا جولي " " أسفة ، فلدي الكثير من العمل قبل الرحيل . حزم الأمتعة وسواء . بحيث يبدو من المستحيل حقا بالنسبة الي " وجاء صوت كلودين يقول : " هل ستيف على الهاتف ؟ " وضعت جولي يدها على السماعة حتى لا يصل الصوت الى ستيف . كانت كلودين تنظر اليها عبر حاجز الدرج وكانت ترتدي فستانا أخضر من نسيج وبري يصل الى ركبتيها . و اجابتها جولي : " نعم ، إنه ستيف " وطلبت جولي الى ستيف ان يبقي على الخط لحظة قبل ان تستدير الى كلودين تسألها : " هل هناك شيء تريدين أن تحديثه عنه ؟ " وأجابت كلودين : " نعم ، إنني لا أجد قميص النوم الأخضر ولقد بحثت عنه في كل مكان ولكن يبدو أنني قد وضعته دون قصد في حقائب ستيف . هل تسأليه ؟ " و تذكرت جولي في شيء من الغضب و الحقد ذلك الرداء الاخضر المزرق الذي يشف عما تحته الذي كان يذكرها بريش الطاووس . وهزت كلودين كتفتها عندما لاحظت مشاعر الغضب تبدو على وجه جولي ، و أخدت لسماعة في هدوء وقالت : " ستيف أنا كلودين " ونظرت الى جولي التي تسمرت قدماها على الارض بابتسامة عذبة قائلة : " انت تذكر قميص نومي الأخضر المزرق . أنا لا أجده و أحسبه قد اختلط مع حاجياتك ؟ هل وجدته ؟ لا .... ليس من الضرورى ... يمكنني أن أحضر لآخذه غذا . جولي ؟ " و ارتسمت على وجهها علامة استفهام كبيرة . وعنذئذ استدارت جولي خرجت في بطء و تعال من الصالة لى الخارج . لم يحاول غي أن يثر أية استفسارات حول المكالمة فقد لاحظ تعبيرا مكتوما على وجه جولي التي واصلت العمل في حزم الآمتعة في شيء من الآنتقام . واتمت وضع كل شيء داخل السيارة بما في ذلك الخرائط التي تحدد لها الطريق في اقل من نصف ساعة . و عندما اغلقت أبواب السيارة كان الغسق الأرجواني يتصارع مع ظلمة الليل . وقد أمسي كل شيء على أتم استعداد لرحلة الصباح . ودخل غي المنزل قبل ذلك بدقائق قليلة ليعد بعض المرطبات . ومسحت جولي قطرات العرق عن جبهتها واستدارت متجهة الى الباب الداخلي لتلحق به . ولم يكد تخطو خطوتين حتي انغلق الباب الداخلي ووجدت أمامها شبحا عالي القامة يقف في طريقها . وتوقفت لحظة وفكرت في الهرب لكنها لم تستطيع . وارتسم على فمها خط من الكأبة وهي تسير نحو ستيف . وكان في وسعها وهي تقترب منه أن ترى أثار التعب على وجهه ولكنها رفضت أن تجعل لشفقة تضعف من تصميمها أو من ضربات قلبها لمنكوب . وبدت عيناه في الضوء المعتم في زرقة أكثر قتامة وهما تلاحظات اقترابها منه . " ما كنت بحاجة الى أن كلف نفسها عناد الحضور " قالتها في شيء من البرود ، وتوقفت على بعد خطوات منه سخر منها قائل : " صحيح ؟ ! " وقالت وقد جعلها الكبرياء ترفع ذقنها بدرجة أعلى قليلا مما اعتادت : " لقد تبادلنا كلمات الوداع عبر الهاتف " ولم يكن بحاجة الى أن يذكرها : " ولكن محادثتن الهاتفية قطعت " " غير أننا كنا قد قلنا كل ما هو مهم قبل ذلك . وكانت كلودين قلقة تريد التحدث اليك " كانت نظرته تحوم مستفسرة عبر وجهها وهو يقول :" لقد اعدت اليها رداءها المفقود " وواصلت تجيبه في هدوء : " كان ذلك احتراما منك لمشاعرها . وأظن أنها ستقدر لك ذلك ، فقد كانت قلقة لهذا السبب " " ما الذي جعلك تقررين الرحيل بهذه الطريقة المفاجئة ؟ " " لقد شرحت لك . إن خالتي مريضة " " أنا لا اصدقك هل يعقل أن يسبب لك مرض الخالة مثل هذا القلق ؟ " و انتهزت جولي الفرصة لتعزز اسباب الرحيل فقالت : " إن الخالة بريجيت لها مكانة خاصة فهي التي زودتني بالمال للحضور الى هنا . وصلتي بها القوية للغاية ولذلك فمن الطبيعي عندما تمرض ألا أكتفي بهز كتفي كما لو كان الأمر بهذه البساطة " وبدأ يستسلم لصديقها رغم أنها كانت تري آثار الشك على وجهه تصارع لإقناعه بعدم تصديقها . كانت هذه فرصتها للرحيل لعلها تنقذ كرامتها دون أن تخدش . وأوشكت على الحركة ولكن صوته أوقفها وهو يقول : " لدي شعور بأن هناك شيئا لا تريدى ان تصرحي به " وبلعت ريقها قالت : " لا أدري ما هو ؟ " واخذت تجهد عقلها كي تكتشف ما اذا كانت هناك ثغرة في قصتها . وواصلت تقول : " أنا ... لم ... لم أشكرك لأنك اتحت لي فرصة التعرف على الملامح المحلية مما جعل لرحلتي مغزي خاصا " وارتسمت على وجهه ابتسامة مريرة متسائلة ، حبست أنفاسها ، وقال : " شيء أكثر " شيء أكثر . العبارة ذاتها التي قالتها في مناسبة سابقة ربطتها به وواصل يقول : " لقد حاولت ان أجعل لويزيانا تتجسد في صورة حية أمامك " لم يكن باستطاعتها أن تقول له أن قد جعلها هي تستمع بالحياة وانها قد أدركت في النهاية مدى قوة أنفعالاتها كأمرأة . وأكتفت بأن اصطنعت ابتسامة من أعماق الآمها ، وقالت وهي تحاول ان تسير على رجليها المرتعشتين الى أول عتبة للدرج في البيت : " لقد أتحت لى فرصة سعدت فيها برفقة شاعرية " وقال في شيء من السخرية : " رفقة شاعرية ممتازة كما يحدث على ظهر السفن " وأجابت بسرعة وهي تحاول ان تزيح عن كاهلها أثر كلماته الخبيثة : " نعم ، إنه غريب حقا كيف أن العودة الى الوطن تجعل الفتاة تعود الى عالم الواقع " وبدت في عينيه نظرة احتقار جعلتها تشعر بالسعادة وهو يقول : " بلا مشهد يثير الاتبارك .... وبلا وعود بالحب الذي لا يبلي ... لعله أفضل كثيرا هكذا .. وأعتقد أنك سعيدة الآن كون عواطفك لم تؤد بك الى ارتكاب غلطة كنت ستعيشين نادمة بسببها " كان ستيف يشير الى لقائهما السابق ليلة الضباب . ولكن جولي كانت تقابل كلماته بالصمت الذي لاذت به حتي لا تصرح بحبها له . ولم يكن في وسعها ان تتحمل الشفاقة عليها فقالت هامسة و الدموع تتجمع وتومض في عينيها : " نعم " " والآن سوف يكون في وسعك ان تتحدثي الى صديقاتك عن الرجل الذي قابلته بجانب الرافد " وأدارت جولي رأسها بعيدا عن لهب الثقاب وهو يشتعل سيجارته وقالت : " لقد كانت حقا مطابقة كاملة . كيف اتضح إنك أتيان ، ثم كيف اتضح أن اتيان هو ستيف مالك كاميرون هول ! " ووافقت صوت متزمت ، فقد كانت تعرف تماما انها لا يمكن ان تحكى لأي شخص القصة الكاملة ولو على سبيل الثرثرة . وبدأ ستيف يتحدث وكانه يخاطب نفسه قائلا : " أعتقد أنك كنت على حق عندما قلت أنه لا يوجد شيء آخر يمكن ان يستمر الحديث بيننا حوله . ولقد بدات أفكر في أنني ينبغي أن اندم على اليوم الذي دعوت فيه نفسي الى مشاركتك الوجبة التي كنت تاكلينها يوم الرحلة " وكانت رغم الظلام تستطيع ان تتبين أنه كان ينظر اليها ومضي يقول : " أعتقد ان هذا هو الوداع اذا " ومد يده نحوها ، وترددت في ان تمد يدها اليه ، فقد كانت تعرف أن ملمس يده لن يزيدها إلا رغبة متأججة في أن تلقي نفسها بين ذراعيه . ولكنها استطاعت السيطرة على نفسها و هى تصافحه ، وقد شعرت بدفء قبضته القوية يسري الى أعلى ذراعها وخلال جسدها . وإن كانت لم تخف الألم الباردالذي يخفق في قلبها و الذي جعلها صدرها يحس كما لو كان على وشك أن ينفجر . وقالت ي رقة : " وداعا ستيف " و أحست بأن لفظة الوداع حكم قد صدر عليها بأن تعيش وحيدة طوال حياتها . وتمتم ستيف في سخرية قبل أن يطلق يدها : " ايتها العصفوره ... ايتها العصفورة ...طيري وعودى الى وطنك البعيد . رحلة موفقة يا جولي " منتديات ليلاس كان الضوء المنبعث من المنزل يجعل كل شيء في الخارج يبدو أكثر قتامة وبدت الأشجار كنسيج العنكبوت أمام أول نجوم بدات تتلألأ . وبدا ستيف كشبح قاتم قبل أن يبتلعه الظلام ويختفي عن الانظار . كان في وسع جولي أن تعرف الآن لماذا لم يتحطم قلبها كليا . لقد تصورت أن ستيف سوف يصر على عدم تصديق قصتها الهزليه ويضمها بين ذراعيه بقوة ليخبرها أنه يحبها لدرجة تجعله يمنعها عن الرحيل . ولكنه بدلا من ذلك اكتفي بأن قال لها . رحلة موفقة . لقد كان سعيدا بذهابها . وأراد أن تصدق قصتها . وكان سعيدا كذلك عندما اعتبرته مغامرا رومنطيقيا . كانت تلك هي الحقيقة ، بغض النظر عن النتائج بالنسبة الى قلب تحطم . وارتعدت جولي و أحست فجاة بيرودة قاسية ومخيفة . وبالوحدة و الفزع .
13- شيء ما اكثر
لم تعد جولي الى مزرعة والديها بل اتجهت الى شقة خالتها بريجيت عند شلالات سيو . وبعد العناء الذي قاسته في رحلتها الطويله الى داكوتا الجنوبية حيث رفضت ان تسمح لحزنها بأن يعبر عن نفسه من أي منفذ, كان من الطبيعي لدى رؤية خالتها ان تطلق العنان لانفعالاتها ودموعها . وتحملت خالتها بريجيت بطبيعتها العمليه مسؤولية التصريح بما لم تستطع جولي ان تصرح به. انه كان من المستحيل بالنسبة اليها ان تعود لتعيش في منزل ابويها. ولم تمض ايام قليلة حتى حصلت جولي على وظيفة مسؤولية عن التغذية في مؤسسة خاصة للتمريض. وكان المرتب ضئيلا للغاية ولكنها لم تكن تهتم كثيرا بالنقود, فقد كانت بحاجه الى العمل لتشتغل تلك الساعات المليئة بالذكريات المؤلمة واصرت خالتها على ان تشغل جولي غرفة النوم الثانية في الشقه ولو لفترة محدودة, حتى تستطيع الاعتماد على نفسها عاطفيا وماديا. وكان من حسن حظ جولي انها نزلت لدى خالتها التي كانت تطمئن لمأكلها وخروجها الى العمل في التوقيت المناسب وكانت تتخذ القرارات التي لاتستطيع جولي ان تهتم بها. وكان الاسبوع الاول نموذجا سارت على منواله الاسابيع التاليه, فكانت جولي تنهض في الصباح وتذهب الى العمل وتعود الى البيت وتتناول طعام العشاء الذي تعده بريجيت وتعاون في اعمال المطبخ وتقرأ احد الكتب أو تشاهد التليفزيون ثم تذهب الى الفراش . وعندما حانت اعياد الميلاد بذلت جولي اولى محاولاتها للمشاركة في بهجة العيد لعلها تتخلص من العبء الذي جعل حياتها اشبه بالغيبوبة. وبذلت جهدا كبيرا لتختار الهداسا الملائمه لكل عضو من افراد الاسلاة. وكان اصعب الهدايا في الاختيار هي هدية ابيها. فعندما كانت تدخل قسم الرجال في أي محل تتخيل كيف يمكن ان يبدو ستيف في أي من الازياء. وحرصت الخاله بريجيت على ان تشجع فيها الحرص على الاحتفال بالعيد فأشركها في شراء مستلزمات من الزينه وان بدت هذه تافهة في السنوات السابقة. فقد كانت عادة تقصي العطلات المدرسية في الزرعه. اما هذه السنه فقد قررت ان تقضيها في الشقة مع بريجيت اذ لم يكن لها سوى يوم عطله واحده من العمل . وكانت جولي في كثير من الاحيان تبدو مبتهجه تماما ولكنها كانت ايضا تتبادلمع خالتها نظرة معينه تتبعها دائما تنهيدتان صامتتان. لم تكن لتخدع نفسها او خالتها, فقد كان ستيف لايزال يحتل المكان الوحيد في قلبها. كان هناك حفلة ميلاد صغيرة للمرضى في مؤسسة التمريض, وكان معظمهم من المسنين . وعندما خطت جولي خارج بيت التمريض وفعت ياقة معطفها حول رقبتها لتحمي نفسها من برد الرياح الشمالية. واحست بصوت يتشقق اسفل حذائها بينما كانت ذرات الثلج المتناثرة في الهواء تنبئ بمزيد من الثلج قبل ان يحل الصباح . وربتت بيدها على لوحة اجهزة القياس التابلوه في سيارتها الفولكس واغن بحب واعزاز عندما دار المحرك مع اول حركة من المفتاح. وكانت تحمد الله لقرب مسكنها من العمل في مثل تلك الاجواء السيئة. وبدأت افكارها تشرد عائده من جديد الى لويزيانا والى ستيف كعادتها عندما تتحرر من واجبات العمل وكم تمنت ان يفعل الزمن فعله فيبطئ تلك الذكريات ولكن لم يفعل. كان يكفيها ان تغمض عينيها لتحس من جديد بذراعي ستيف حولها, وعند ذاك فان نبضها السريع في دقاته وقلبها المتألم في خفقاه يسخران من امانيها السخية في ان تنسى . واوقفت السيارة امام الشقة الكائنه في الدور الارضي . واصطنعت في حزم ابتسامه على وجهها قبل ان تعدو الى المبنى. كانت هذه لعبة تعودت ان تلعبها لترفع من روحها المعنوية المنهارة وربما عادت اليها جذوتها الطبيعيه في يوم من الايام, وكان ذلك ما اوحى اليها به تفكيرها. وصاحت في مرح وهي تغلق باب الشقة خلفها وتقفله بالمفتاح قبل ان تخلع معطفها وتعلقه على المشجب في الصالة : - انا فقط اعتقد ان الجو سيكون في الخارج عاصفا الليلة . واخذت تلك ذراعيها بقوة لتؤكد ما قالته وهي تخطو من الردهة الصغيرة الى حجرة المعيشة . كانت خالتها تجلس على كرسيها المفضل بجانب الباب مبائرة وعيناها البنيتان تلمعان في عبث باتجاه جولي : - هذا هو وقت عودتك تقريبا. هناك زائر ينتظرك . كانت حجرة المعيشة تمتد على يمين جولي . وتتبعت عيناها المتسائلتان نظرة خالتها التي تحدق في ذلك الاتجاه. وكان ستيف يقف قرب مائدة صغيره يحمل في يده منظرا من مناظر عيد الميلاد حصل عليه اخيرا. كان يرتدي كنزة لها حواش بيضاء فوق البنطلون البني اللون. ولكن عيني جولي انجذبتا الى عينيه الزرقاوين واسرتا الى اعماقها . وشحب لون وجهها . لقد كان ستيف اكثر وسامة مما تصورته. وسألته في خشونه وهي لا تدري ان خالتها قد خرجت في هدوء من الحجرة . - ماذا تفعل هنا ؟ واجاب ستيف في هدوء بصوته المتهدج بعدما خطا خطوة نحوها : - لقد جئت لأراك. - اخرج من هان لا اريد ان اراك . وامتدت يدها الى حلقها لتخنق العبرات الواضحة. وواصل في تصميم قائلا : - لدى ما اريد ان اقوله لك . واستدارت في سرعه وهي تقول : - لا اريد ان اسمع . وكانت على وشك ان تهرب الى حجرتها لولا ان يديه اوقفتاها واطبقتا على كتفيها . ووجدت نفسها عاجزة عن مقاومة رغبتها في ان تذوب بين ذراعيه. وتمتم في اذنها : - سأقول وليكن ما يكن . كان العطر المنبثق منها يمتزج مع عطره المخدر واضاف : - واذا اصررت على ان اخرج بعد ان اقولها. فسوف اخرج . واغلقت جولي عينيها وهي لاتحتمل اقترابه منها : - ارجوك ياستيف. دعني اذهب. لم يعد للكلام معنى بعد الآن . - حتى ولو قلت انني احبك وجدت نفسها تلتصق بصدره واحست في عناق قاس تناول شعرها وتابع : - لم يكن في نيتي على الاطلاق ان اقع في حبك بل يعلم الله انني حاولت ان اتجنب هذا الحب بل حاولت ان انساك. ولكن صورتك كانت تطاردني حتى قبل ان تتركي لوزيانا. وكل ما قلته عن عدم الزواج وعدم الايمان بالحب كنت احدث به نفسي لقد كنت رجلا كثير الاحتجاج . وغمرتها امواج النشوة ولكنها رفضت ان تستسلم لها. لقد جربت مثل ذلك كثيرا في الشهور الاخيرة, وعاشت ذكريات عديده مؤلمة. حتى عندما كان قلبها يحبه كان عقلها يقاوم ذلك بشده . وسألته : - حتى عندما اخذت كلودين معك الى نيوأورليانز ؟ واحتواها ستيف بذراعيه بحيث يتسنى له ان ينظر الى وجهها وقال : - كنت اعرف انك اعتقدت انني فعلت ذلك , وربما حرصت انا على ان تعلمي به. لقد طلبتني وطلبت مني ان اخذها معي. ولكني اقسم لك ان كلا منا كان يقيم في فندق مستقل. واما ذلك القميص الملون الذي حدثت عنه فقد اخذته من احد محلات التنظيف يوم بارحنا نيوأورليانز وتركته في السيارة . - لماذا لم تقل لي ذلك ؟ - كنت على استعداد لسوء التفسير وكنت تريدين ان تجعليني اصدق اني مجرد خيال عابر في حياتك.غرام على ظهر السفينه . واعترفت جولي في شيء من الحياء : - لم يكن ابدا كذلك . والح عليها وقد عادت الضراوه الى عينيه : - هل انت متأكده ياجولي ؟ متأكده تماما ؟! لأن هذه الأشهر الاخيره التي قضيتها من دونك كانت جحيما بالنسبة لي . والتفت ذراعاها حول عنقه وجذبت رأسه تجاهها كان شعورها هو شعور من يعود الى وطنه بعد غياب طويل. ولم يعد هناك مكان للكلام. وجاء صوت الخاله من الخارج يقول : - هل اترك لكما بضع دقائق ام ادخل على الفور ؟ ورد ستيف : - ادخلي ان ابنة شقيقك تتصرف في شيء من البهجه. اعتقد انها في حاجه شديده الى رقيبة . وعلقت الخاله بريجيت في شيء من الرضى والسعاده قائله : - الافضل ان تقول انها بحاجه الى وصيفة شرف . وعانق ستيف جولي وهو يقول : - فكري في هذا الامر ايتها العصفورة الصغيرة . واضاف : - سواء قلت لك ذلك ام لا , فسوف نتزوج فور حصولنا على ترخيص وايجاد كاهن يتم اجراءات الزواج. ان كاميرون هول بحاجه الى جولي انطوانيت كاميرون اخرى لتكون سيدة القصر. كم ان سيدة القصر ايضا بحاجه اليها . وحدقت جولي في حب كبير في وجهه وقالت : - لقد كان ذلك عرض زواج في وجود شاهد ياسيد كاميرون واما الشاهد نفسه اعلن قبولي . وابتسمت خالتها وقالت : - لا اعتقد ان ستيف كان ينوي ان يترك لك فرصة الاختيار. ليس لدي ما اقدمه في هذه المناسبة الا شراب الكاكاو . وعلقت جولي : - هل اقدم المساعده ؟ ورفضت خالتها بحزم . وقال ستيف موجها الكلام الى خالتها وهو يضع ذراعه حول جولي ويجذبها نحوه : - قبل ان انسى لقد اخبرتني جولي انك المسؤولة عن تمكنها من القيام بالرحله الى لويزيانا. واريد ان اقدم لك الشكر على ذلك من كلينا. واذا لم يكن لدى جولي اعتراض فسوف نسمي ابنتنا الاولى بأسمك . ولمعت عينا المرأة العجوز بالدموع وقالت : - هذا فقد اذا كنت سأحضر حفل تعميدها. وعلقت جولي: - لنعتبر ان هذا قد تم . وتركت خالتها الغرفة على عجل وهي تقول : - حسنا .. من الافضل ان اسرع بتحضير الكاكاو. وحدق ستيف اليها بشعور دافئ يكاد لا يصدق وقال : - هل ضايقك هذا ؟ وغطت وجنتها حمرة الخجل وهي تقول : - لقد كان شيئا رائعا. ومع ذلك يمكن ان يكون لنا اولاد كذلك . - سنظل نحاول حتى نحصل على ما نريد. وفي هذه اللحظه لا يهمني ان يكون لي طفلان او عشرة اطفال او حتى 20 طفلا. ان كل ما اريده هو انت , اما أي شيء اخر فيكون بمثابة منحه, ولو اني اعتقد ان ولدا واحدا وبنتا واحده شيء عظيم . قالت لاهثة وهي تحدق في وجهه تخشى الا تراه ثانية : - اوه ياستيف انني احبك كثيرا . كانت تلك دعوة لم يستطع ان يقاومها, بل لم تستطع جولي ان تقاوم وهي تقدم نفسها اليه. وهمس هو الاخر : - وانا احبك .
تمت

Comments